ترامب وعودة الأصولية - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 10:21 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ترامب وعودة الأصولية

نشر فى : الجمعة 2 ديسمبر 2016 - 9:40 م | آخر تحديث : الجمعة 2 ديسمبر 2016 - 9:40 م
هناك ثلاثة مسارات فكرية لاهوتية (فقهية) للأصولية الأمريكية ذات أهمية خاصة. الأول شعور بالاختيار الإلهى؛ فقد اختارهم الله من بين شعوب العالم ليكونوا شعبه الخاص أو المختار، والآخر شعور عميق بأن الزمن الراهن عصر شرير وأن نهاية العالم قد اقتربت، والأخير أن هناك علاقة لا تنفصم بين الدين المحافظ والسياسة المحافظة. يؤمن الأصوليون بأن الله اختارهم وكلفهم أن يكونوا حماة الحرية. وقد ترسخ هذا الشعور بالمصير مختلطا ومتعمقا بأحلام ورؤى الرواد المؤسسين، الذين نادوا بفكرة اختيار الله لأمريكا لتتحمل مسئولية نشر مبادئ المساواة والعدالة والديمقراطية إلى كل أطراف الأرض غير المتمدينة.

لقد استمدت الأصولية الأمريكية بعضا من قوتها وشعبيتها من ردود الفعل اللاهوتية (الفقهية) والشعبية المضادة والرافضة لما أطلق عليه الـ «عصرية» (modernism) وأدرجت هذا الرفض فى عقيدتها. وهذه الكلمة «العصرية» تشير إلى بدء المرحلة الحديثة للانتقاد العلمى للكتاب المقدس، والتأثير المتزايد «للمادية الإيجابية العلمية» ((positive materialism؛ حيث طبق بعض علماء الكتاب المقدس فى القرن التاسع عشر مبادئ الاستفسارات العلمية فى دراستهم للكتاب المقدس مثل ماذا قال علم الآثار عن دقة وصحة الكتاب المقدس التاريخية؟ هل هناك أية أدلة جيولوجية تدعم الأحداث العجائبية (المعجزات) المذكورة فى الكتاب المقدس؟ وهل كانت هذه الاكتشافات تشير إلى وجود مفارقات وعدم توافق فى المعتقدات المسيحية؟...إلخ. كل هذه القضايا طرحت أسئلة عميقة وجدية حول «الحق» المعصوم والمحفوظ فى الكتاب المقدس.

فى بداية القرن العشرين كانت إحدى نتائج رد الفعل المعاكس للانتقاد العالى (High criticism) للكتاب المقدس من قبل «اثنين من العلمانيين المسيحيين (ليسوا رجال دين) حيث قاما بجمع مبلغ كبير من المال (250000 دولار) لنشر اثنى عشر مجلدا يحتوى على أساسيات الإيمان المسيحى عنوانها: «الأساسيات والمبادئ الأصلية (thefundamentals)» للإيمان المسيحى وهى التى أعطت اسمها إلى الحركة الأصولية (fundamentalism). وفى الوقت الذى كان فيه النقاد الأولون «للعصرية» (modernism) من القسس والوعاظ وأساتذة الجامعات، كانت نداءات الأصوليين موجهة مباشرة إلى الجماهير الأمريكية التى لم تكن تتعاطف كثيرا مع التقاليد الأكاديمية اللاهوتية، لكنها كانت تتأثر بقوة باختباراتها الدينية اليومية التى كانوا يمارسونها فى عباداتهم، حيث كانت «علاقاتهم واختباراتهم الروحية الحية والشخصية أكثر أهمية مما كانت تقوله الكنيسة الرسمية بوعاظها وتعاليمها أو حتى من الاستنتاجات التى كان يتوصل إليها علماء الدين؛ أى أن ما كان يؤثر ويتوافق مع حياة الفرد الشخصية اليومية على الأرض كان أكثر أهمية وفاعلية وانتشارا حتى من الاستنتاجات الفلسفية واللاهوتية.

لابد هنا أن نذكر أن الرؤساء الجمهوريين على مدى التاريخ الأمريكى وخاصة فى العصر الحديث، من ريجان وحتى ترامب لهم نفس قناعة الأصولية الأمريكية؛ بأنهم مختارون من الله لإيصال رسالة الحرية السياسية إلى بقية العالم. وبالنسبة لكثيرين من الأصوليين، فإن فوائد الأصولية الدينية مع فوائد الحرية الفردية السياسية والاجتماعية قد اندمجا معا فى قضية سياسية ولاهوتية واحدة مشتركة، بما فيها قضايا السياسة الخارجية. وقد ظهرت هذه القناعة واضحة فى تدخل الإدارة الأمريكية بقوة فى أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا...إلخ، وفى لهفة الأصوليين لإرساء الديمقراطية فى العالم.

وبالطبع هذا التوجه يقل كثيرا مع وصول الديمقراطيين إلى الحكم مثل ما حدث فى أثناء حكم كلينتون وأوباما.

***

أما المسار الثانى فهو يتحدث عن الأزمنة الأخيرة الشريرة ومن الغريب أنه فى الوقت الذى فيه تتصف الأصولية الأمريكية بالتفاؤل نتيجة الشعور بالاختيار الإلهى، حيث وقعت عليهم مسئولية إلهية لتحرير الانسان، إلا أنه وفى نفس الوقت لديهم نظرة متشائمة نحو مستقبل العالم. وقد أصبح هذا الشعور بالتشاؤم جزءا أصيلا من الأصولية العالمية فى نهاية القرن التاسع عشر من خلال حركة تدعى التدبيرية (dispensationalism). كتب عالم التاريخ «سيدنى الستورم Sidney Alstorm» عن التدبيرية ما يلى:
«إن تفعيل هذا الحافز الجديد المتشائم كان قناعة مؤلفة من جزءين: الأول أن كل العالم المسيحى، بما فيه الولايات المتحدة وكندا، يرتد عن الدين الحقيقى إلى ضلالات وبدع بشكل عميق وشديد مما يعنى اقتراب الأيام الأخيرة، والجزء الثانى نتيجة للقناعة الأولى الحاجة القوية للأخذ بالحقائق القاسية المأخوذة من كلمة الله. وهذه العبارة «الحقائق القاسية المأخوذة من كلمة الله» تعنى بالنسبة لهم أنه يجب تفسير وفهم الكتاب المقدس حرفيا، كلمة بكلمة. وقدم ألستورم تعليقا حول مدلولات هذا التعليم «أصرت الأصولية أولا وبدون أى تردد على عصمة الكتاب المقدس الحرفية المطلقة أى أنه الكلمة «المكتوبة» للإله الأبدى الذى لا يتغير، وأن كل كلمة وعبارة فيه قادرة ليست فقط على إعلان ما يحتاجه عالم التاريخ والعالم اللغوى لتفسير الكتاب المقدس، لكن أيضا التفسير العلمى للكون وهو يشبه إلى حد كبير عقيدة الإعجاز العلمى فى القرآن». لقد قام التدبيريون باستخدام التفسير الرمزى للعهد القديم والتكهن بالأرقام للتنبؤ بأحداث ووقائع مستقبلية جعل الكثيرون من العلماء ذوى الثقة يؤكدون أن تفسيراتهم ليست حرفية بتاتا بل ضربا من الخيال؛ فالحرفية مناقضة للرمزية فعندما يتكلم الله مباشرة بشكل حرفى ما الحاجة إلى فك رموز لمعرفة واكتشاف إرادة الله من نحو شعبه والعالم؟».

لقد تبنت الأصولية الأمريكية نهجا خاصا لتفسير الكتاب المقدس بغير اعتبار أو احترام للتقليد المسيحى ولقادة الكنيسة ولا حتى لعلم دراسة الكتاب المقدس، حيث خلقت علما للكون خاصا بها. (ومن سخرية القدر أن ذات كلمات الكتاب المقدس بتفسيرهم لها، استخدمت ضد أفكارهم المتداولة بينهم وأدانتهم). وكمثال على ذلك، قرر قادة هذه الحركة الجديدة أن الهدف الرئيسى للكتاب المقدس هو تقديم برنامج زمنى عن اقتراب نهاية العالم بل وتحديد موعده (وبالفعل قامت بعض فروع الأصولية بوضع تواريخ محددة حول نهاية العالم وروجوا لها على مستوى العالم وطلبوا من الجماهير الاستعداد بقوة لمثل هذا اليوم بالتوبة والصوم والصلاة لكن لم تتحقق واحدة منها) فكانوا مثار سخرية العالم.

إن التراث الدائم لأحداث 11 أيلول / سبتمبر 2001 يعكس صورة للعنف المنسوب إلى المسلمين، ومن خلالهم إلى كل الإسلام بالرغم من التماسات الإدارة الأمريكية وقادة المجموعات المسيحية والإسلامية الأمريكية، ونشر الرفض العربى والإسلامى لهذه الحادثة المأساوية فى وسائل الإعلام الأمريكية، إلا أن الشعور السائد بين كثيرين من الأمريكيين ــ وليس فقط بين المسيحيين ــ هو أن الإسلام دين حربى يخطط لتدمير المسيحية بوسائل تستخدم العنف.

كل هذه التنديدات تعزز أجواء الهلاك المحتوم للعالم حسب تفسير الأصوليين. إن الاعتقاد الراسخ للأصوليين هو أن المسلمين، وكل المسيحيين غير الأصوليين وغيرالمؤمنين قد قادوا العالم إلى زاوية مظلمة وأن إصلاح الأمور يستدعى مواجهة هذا الشر، وهذه هى مهمة الأصوليين. وعلى الرغم من الجهود التى بذلتها الإدارات الديمقراطية (هيلارى وأوباما) لاحتواء وترويض الجماعات الإسلامية إلا أن عنف داعش الذى استخدم ضد المسيحيين والأيزيديين من قتل وسبى نساء وأطفال اجهض محاولاتهم.

***
أما المسار الثالث للفكر الأصولى وهو ارتباط الأصولية الدينية بالأصولية السياسية فيتضح من رد فعل الأصوليين ــ وكثيرين من القادة كما حدث تماما فى عهد إدارة بوش ــ عدم المبالاة بالرأى العام العالمى والاستمرار فى الفكر الأصولى المعادى للعالم ككل. وقد تكرر الموقف من عدم اللا مبالاة بالرأى العام العالمى اليوم مع ترامب ومع أن سبب هذا الموقف هو بشكل جزئى الغرور والكبرياء للقوة العظمى العالمية الوحيدة الباقية، إلا أنه ينبع أيضا من تاريخ طويل فى التشاؤم، ويعكس رد فعل للاعتقاد الراسخ لديهم القائل بأن العالم مكان عدائى شرير للمؤمنين الحقيقيين، وأن عليهم أن «يفعلوا ما هو صواب» ولو فى مواجهة المعارضة العالمية. وهكذا فإن توجيه الانتقادات من قبل الأمم المتحدة أو الدول الإسلامية أو من قبل الحلفاء الأوروبيين لا يسبب قلقا كبيرا للأصوليين، لأن هذه الانتقادات تتوافق مع الافتراضات الشريرة المعادية للمسيحية التى يؤمن بها الأصوليون بالنسبة إلى الوضع العالمى. وبنفس الطريقة، فإن الانتقادات الخارجية للولايات المتحدة لم تؤد إلى أى تغييرفى سياسة إدارة بوش ولا غيره من الجمهوريين السابقين له وقد بدأت تبدو ذات الملامح مع ترامب.

لا شك أن ما يثبت الفكر الأصولى لدى معتنقيه هو اعتماد الأصولية على نظرة ثابتة مغلقة للعالم والذى يجعل هذا العالم المغلق منفتحا بعض الشىء هو مقابلة أو مواجهة مع عالم متغير قوى ويثق بنفسه. إن الأصولى المسيحى يفترض أن غير الأصوليين أشخاص يسببون المتاعب، ويعيشون حياة منحرفة وأن محور تحويلهم إلى أصوليين ناضجين هو إقرارهم أنهم كانوا يعيشون بالشر وأنهم يتوبون عن طرق حياتهم القديمة. وطالما أن الأصوليين يقتصرون بتفاعلاتهم الروحية مع الذين يشاركونهم عقيدتهم، فإنه من السهل الاحتفاظ بهذا الوهم، كيف يجب أن نستجيب لهذا الواقع؟ إن التحدى الذى يواجه المسيحيين والمسلمين الذين يتفاعلون مع الأصوليين هو أن يقدموا إيمانا شخصيا وجماعيا ينبض بالحياة فى خضم هذا العالم المتعدد المذاهب. من الضرورى جدا أن يدرك الأصوليون أن إيمان المؤمن الذى يتحاور معهم هو إيمان حقيقى وكامل، وخاصة إيمان الذين يؤمنون بنفس الإله الذى يؤمن به الأصوليون.

***
أخيرا نحن لا نستطيع بعد الآن أن نختبئ أو نتجاهل تعدد الأديان التى تعيش عيشا مشتركا فى نفس الدولة أو المجتمع (وغالبا) فى نفس العائلة.
فهل الذين يريدون أن يجسروا الهوة بين الأديان والطوائف يملكون العزيمة والتصميم للتجاوب بفاعلية مع هذا التحدى؟
إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات