بلكونات المتوسط - داليا شمس - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 5:30 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بلكونات المتوسط

نشر فى : السبت 3 سبتمبر 2016 - 9:30 م | آخر تحديث : السبت 3 سبتمبر 2016 - 9:30 م

شىء ما يجذبنى إلى بلكونات مدن البحر الأبيض المتوسط، ليس بالضرورة تلك التى تطل على البحر، رغم أنه يعتبر منذ القدم الممر التقليدى للكسب ومعرفة الآخر وأحيانا السيطرة عليه. وكثيرا ما ضبطنى متلبسة بتصوير الغسيل أو الزرع الذى يزين تلك البلكونات، فيكون له حضور حتى بدون وجود العنصر البشرى فى المشهد، أما إذا ظهر أحد السكان فجأة أشعر أنه اقتنص لحظات لتأمل العالم من مكان مميز فى مسرح الحياة. مكان يطل على ما حوله، ينتمى إلى العالم الخارجى بحكم موقعه، لكنه بالأساس ينتمى للمنزل، يظهر جزءا من داخل البيت، نستطلع من خلاله الأثاث ووحدات الإضاءة، وبالتالى يعطى فكرة سريعة وخاطفة عن المستوى الاجتماعى أو طبيعة السكان. استرق النظر إلى الداخل، خاصة عند التسكع فى المدن التى لم أدع لدخول بيوتها، إذ لا أعرف فيها أحدا ولا أجيد لغتها، رغبة منى فى معرفة المزيد عن هؤلاء الأغراب.


***


مساحة الفضاء التى يتحرك فيها الفرد تقلصت للغاية وتقلص معها الدخل اليومى له وحقه فى الضوء والشمس والهواء، كما يقول علاء خالد فى كتابه «وجوه سكندرية» عندما يتحدث عن ذاكرة المدينة من خلال حكايات الناس والمكان، وكما يفعل دائما عندما يصحبنا فى جولات تسكعية ممتعة بالشوارع والأزقة والمقاهى. أشاركه شعورا بالخجل وأنا أتغزل فى الشرفات وهندستها والتأمل من خلالها أو وأنا أرثى نمطا هادئا ومتسعا فى العيش وهناك من يبحث عن ثقب إبرة أو نفق ليقضى فيه حياته. لكن فى النهاية أردد فى سرى أن جميعنا نحتاج إلى هذا البراح وإلى جرعة من التأمل، لكى نتمكن من الاستمرار واللهث وراء التفاصيل اليومية. ثم أجلس على كرسى صغير أراقب حركة المارة من أعلى، وأتوقف عند الكراكيب المخزنة هنا وهناك، تزاحمها بعض أطباق الدش التى يكسوها التراب، لأن البلكونة لها وظيفة جمالية وهندسية، وأخرى منزلية «كراكيبية» بامتياز، فهى مساحة إضافية للتخلص من العناصر الزائدة عن الحاجة داخل المنزل، وإذا كان لأهله أصول ريفية فهم لا يميلون عادة للتخلص منها نهائيا، بل يتركونها لوقت «عوزة» فى الهواء الطلق. بعض تفاصيل الكراكيب قد تكون بالفعل مثيرة للخيال وحب الاستطلاع، لكن بما أن عنصر الجمال هو ما ينقصنا بشدة فأجدنى أبحث عنه وأتوق مثلا إلى بلكونات إيطاليا التى تزينها النباتات العطرية من لافندر إلى ريحان أو زعتر، إلى شرفة صديقتى فى روما التى كلما احتاجت عشبا للسلاطة خرجت لقطفه منها. أقارن بين ما نفعله نحن ببعض شرفاتنا القديمة فى مصر، بتصميماتها الرائعة وتنوعها، وما يفعله الآخرون فى بلاد غربية وعربية، حيث ينظمون الجولات السياحية الخاصة لاكتشاف المدن من خلال البلكونات. رحلات منظمة فى الكوت دازور بجنوب فرنسا للتعرف على أساطير الريفيرا من خلال الشرفات، ومثلها فى باريس حيث ظهرت أول بلكونة هناك فى منتصف القرن السابع عشر.


***


أتحسر على بلكونات بورسعيد وبورفؤاد والإسماعيلية حيث المساكن القديمة للعاملين فى قناة السويس، والتى يرجع تاريخها إلى1860ــ1899، تراث معمارى فريد من البلكونات الخشبية المشغولة بعناية، سواء فى الحى العربى أو الأفرنج، أهدرنا الكثير منه دون أن نحسن استخدامه أو صيانته. ثم أقارن ما ألم بهذا التراث وما تحاول عمله دولة صغيرة مجاورة، ذات إمكانات محدودة، وهى مالطا، لكى تحافظ على ما تملكه من بلكونات خشبية بنيت ما بين القرنين السابع عشر والثامن عشر. يطلق على هذه الأخيرة «المالتيجاس»، وهى تزين حتى الآن بيوت وقصور الوجهاء فى العاصمة فاليتا، وقد تم اقتباسها من فكرة المشربيات الشرقية، لكن الفارق كبير بين مصير هذا وذاك.


هناك من يستطيع تحويل المنازل وشرفاتها لتصبح متعة للناظرين كما هو حال بيوتات سيدى بوسعيد فى تونس أو قلعة الوادية بالرباط، وهناك من يتمعن فى تحويل كل ما هو بالفعل جميل إلى قبح، وقد يظن أحيانا أنه يفعل خيرا، فى حين يكفى فى كثير من الأحيان وفى أقسى المناطق عشوائية أن تزرع البلكونات والأسطح فتعطى إحساسا بالجمال والنضارة والطرواة فى مكان يضيق بقاطنيه. وحتى مع اختفاء الشرفات وتحولها إلى غرف زجاجية إضافية تستخدم لمذاكرة الأبناء، قد يسمح الوضع بوجود مساحات خضراء صغيرة للتأمل والراحة، فى بلاد يساعد فيها الجو على ذلك.

التعليقات