فى مايو 2004، بعد أقل من عام على الغزو الأمريكى للعراق، نشرت صحيفة نيويورك تايمز رسالة مطولة إلى قرائها باسم «طاقم تحرير الصحيفة» تضمنت اعتذارا عن تغطية الصحيفة لحرب العراق منذ وقوعها وكذلك فى الأشهر السابقة للغزو. كان منطق الاعتذار غير المعتاد ومناطه هو أن حالة التأييد الشعبى الشديد لاندفاع الحكومة الأمريكية وقتها باتجاه شن هذه الحرب غير القانونية أدى إلى صرف الصحافة أو امتناعها طواعية عن القيام بدورها فى تمحيص الأدلة كمنبر مستقل للحقائق الموثقة. واختتم المحررون الرسالة بقولهم إنهم يتمنون لو أنهم كانوا أكثر جرأة فى إجراء تحقيقات مستقلة بشأن المزاعم الخاصة بأسباب الحرب ومدى احتفاظ النظام العراقى بأسلحة الدمار الشامل.
إن الدرس هنا واضح للغاية: فى أوقات الطوارئ والأزمات والحروب سيكون من الطبيعى دائما أن تلجأ السلطات الحاكمة إلى اتخاذ إجراءات تراها ضرورية فى وقتها من أجل الاستجابة للخطر الماثل أثناء الأزمة، وفى أغلب هذه الأوقات تحظى السلطات بتأييد شعبى لتلك الإجراءات دافعه الأساسى هو الخوف من الأزمة. لكن تجارب الدول الديمقراطية والسلطوية على حد سواء تبرهن لنا على أن أوقات الأزمات والطوارئ هى الأوقات التى يتوجب فيها أكثر من أى ظرف آخر على وسائل الإعلام وأصحاب الرأى أن يكشفوا ما لديهم من حقائق وأن يصدحوا بآراء قد لا ترغب أغلبية المواطنين والسلطات الحاكمة والنخب الموالية لها فى سماعها أو تصديقها.
●●●
فى مصر مبارك تعرضنا لتجربة مشابهة. ففى بداية التسعينيات قرر مبارك منح الضوء الأخضر لأجهزته الأمنية لاتخاذ كل ما هو ضرورى للتصدى لخطر الإرهاب العنيف من قبل الجماعات الإسلامية المسلحة دون مقاومة مجتمعية تذكر، بل وسط تأييد مجتمعى حاشد. ولم يكد عقد التسعينيات يشرف على الانتهاء حتى كانت بلدنا قد وصلت إلى الحال التى عرفناها عليها حتى يوم خلع مبارك من سدة الحكم فى فبراير 2011: عشرات الآلاف من المعتقلين دون محاكمة، وممارسة منهجية مستشرية للتعذيب، وعشرات المحاكمات الاستثنائية الجائرة للمدنيين، وتدخل مكشوف فى حرية الصحفيين والمعارضين، انتهاء بالتدمير شبه الكامل للحركات العمالية والنسائية والطلابية وغيرها.
لهذا فإن تمسكنا فى هذه اللحظة الفارقة من تاريخ وطننا بسيادة القانون، وحرصنا على التصدى لأى مخالفات أو انتهاكات فى هذه الفترة الحاسمة لا ينبع من اعتزاز ساذج بمفاهيم حقوقية، وليس محاولة لإحداث «وقيعة بين الشعب وجيشه»، ولا هو تنفيذ لأجندات خارجية، وإنما دافعه الحرص على نجاح هذه الفترة الانتقالية لكى نشرع فى بناء مجتمع ديمقراطى حقيقى.
واليوم يبدو التحدى الأبرز الذى يواجه الساعين نحو إرساء سيادة القانون كخط أحمر هو اتجاه السلطة الانتقالية الحاكمة إلى إحداث توسع غير مسبوق فى تاريخ هذا البلد فى إحالة المتهمين المدنيين إلى المحاكمة العسكرية وسط ما يبدو تأييدا شعبيا واضحا لهذا الإجراء بوصفه الطريقة المثلى لمواجهة ما يعرف بالانفلات الأمنى. وأصبح الواضح لكل ذى عينين أن هناك خطابا متناميا وقناعة آخذة فى التعمق بين أفراد النخبة والمواطنين بشكل عام بأن المحاكم العسكرية أكثر كفاءة من المحاكم العادية فى إقامة العدل ومواجهة الجرائم.
لنبدأ أولا بسرد بعض ما نعرفه من حقائق شاهدناها بأعيننا فى المحاكمات العسكرية لمدنيين أغلبهم يحاكمون بتهم جنائية كجرائم السرقة وحيازة الأسلحة والتعدى على الممتلكات وترويع المواطنين، بل حتى تعلية مبان دون ترخيص أو نشر أخبار كاذبة. إننا نتحدث هنا عن عدد يتجاوز عشرة آلاف مواطن تم إخضاعهم لهذه المحاكمات العسكرية فى الشهور الثلاثة الأخيرة. ووفقا لرئيس هيئة القضاء العسكرى فإن عدد المتهمين أمام القضاء العسكرى فى قضايا «الشغب والبلطجة» وحدها بلغ7030 متهما خلال شهرين فقط.
بعض هذه المحاكمات التى شاهدناها لا يتجاوز وقت نظرها أمام المحكمة عشرين دقيقة، ولا يسمح للمتهمين بالاتصال بأسرهم أو محاميهم عند القبض عليهم، وفى أغلب الأحوال لا يتمكن المتهمون من اختيار محامين يمثلونهم وتكتفى المحكمة العسكرية بإثبات حضور محام من طرفها. وحتى هؤلاء المحامون المنتدبون يشكون من أنهم لا يستطيعون الاطلاع على ملف القضية إلا أثناء نظر الجلسة وأن أغلب طلباتهم بالتأجيل لإعداد الدفاع يتم رفضها. وفى الغالبية القصوى لا يتمكن محامو المتهمين من استدعاء شهود لنفى التهمة عن موكليهم أو تقديم أى أدلة نفى أخرى.
والحالة الأشهر هنا هى محاكمة النشطاء المقبوض عليهم من ميدان التحرير يوم 9 مارس الماضى والبالغ عددهم 173 متهما، تم التحقيق معهم فى الساعة السادسة من مساء الخميس 10 مارس بواسطة النيابة العسكرية ثم خضعوا للمحاكمة فى نفس اليوم أمام المحكمة العسكرية التى انعقدت داخل مطبخ السجن الحربى وصدرت ضدهم أحكام متباينة فى اليوم ذاته. ولم يتسن لجميع المتهمين فى تلك القضايا الاتصال بذويهم أو بمحامين، بينما لم يسمح لعدد من المحامين المتطوعين عن منظمات حقوق الإنسان بدخول مبنى السجن أصلا لحضور المحاكمة وتمثيل موكليهم. وحسنا فعل المجلس الأعلى للقوات المسلحة حين قرر وقف تنفيذ عقوبة هؤلاء النشطاء، ولكن ماذا عن الآلاف الآخرين؟
●●●
الخط الأحمر هنا هو أن مصر ما بعد مبارك يجب أن تكون بلدا تحترم فيه حقوق المواطنين والمتقاضين والمحتجزين ولو كانوا متهمين بارتكاب جرائم جنائية. ولكن الخطورة لا تقتصر هنا على إهدار حقوق المتهمين، بل فى تأثير هذه الممارسات واسعة النطاق على نجاح العملية الانتقالية برمتها وعلى مستقبل البلد الذى نعيش فيه. فتجاهل المحاكم الجنائية المدنية واللجوء لنظام قضائى مواز يبعث للمجتمع برسالة لا غموض فيها مفادها أن السلطة الحاكمة لا تثق فى كفاءة المحاكم العادية وهو ما سيؤدى تدريجيا إلى مواصلة التدمير الذى بدأه مبارك للسلطة القضائية المستقلة عبر إهدار ثقة المتقاضين فيها.
ما لا يقل إثارة للقلق هنا هو التفسير الرسمى الذى قدمته هيئة القضاء العسكرى لهذه السياسة غير المسبوقة، والذى يستند إلى أن قرار الرئيس المخلوع فى 28 يناير الماضى بنزول القوات المسلحة إلى الشوارع يعنى أن جميع مناطق مصر أصبحت من «الأماكن التى يشغلها أفراد القوات المسلحة» وهو ما يعنى خضوعها للاختصاص القضائى العسكرى.
المعنى هنا أن مصر بأكملها تحولت لمنطقة عسكرية قد تخضع أى مخالفة أو جريمة ترتكب فيها لاختصاص القضاء العسكرى حتى لو كانت المخالفة لا تحمل أى شبهة أو طابع عسكرى كتوسعة شقة سكنية دون ترخيص!
●●●
هذه النقاط تحتاج منا إلى حوار مجتمعى مفتوح، نتدارس فيه بدائل أخرى لإعادة أجهزة الأمن للقيام بدورها بشكل قانونى وفعال فى نفس الوقت. ولكننا لن نستطيع إجراء هذا الحوار إذا خضعت وسائل الإعلام لرقابة ذاتية أو رسمية من أجل الكف عن إثارة هذه الاعتراضات الموضوعية.
كل هذا لا يعنى التقليل من التحدى الذى تمثله الجرائم الجنائية وعجز الشرطة أو امتناعها مرحليا عن التصدى لها. لكن الأنفع لوطننا أن نفكر معا فى طرق مواجهة هذا التحدى دون هدم أسس الدولة القانونية والمجتمع الديمقراطى، وإلا أصبحنا كمن قام بترميم حائط فى منزله فقوض أساسات المنزل بأكمله.