«تنويريون» بدون تنوير - جورج فهمي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 8:10 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«تنويريون» بدون تنوير

نشر فى : الأربعاء 5 أكتوبر 2022 - 8:10 م | آخر تحديث : الأربعاء 5 أكتوبر 2022 - 8:10 م

لم يعد يمر وقت طويل من دون جدل بسبب تصريحات مجموعة من الكتّاب والمثقفين الذى يتم عادة تعريفهم «بالتنويريين». تختلف أشكال الجدل لكن الأسباب وراءها دوما واحدة، وهى إما قضية الإصلاح الدينى الذى ترى تلك الأصوات «التنويرية» أن المؤسسات الدينية مقصّرة فى أدائه، وإما الانزعاج من القيم المحافظة التى تحكم سلوك قطاع كبير من الشعب المصرى، كأنماط الزى المحافظ مثلا، والتى يراها بعض تلك الأصوات عائقا فى سبيل تقدّم المجتمع المصرى. إلا أن مراجعة تاريخ حركة المجتمعات الأوروبية منذ القرن الثامن عشر تشير إلى أن أيّا من السببين لم يكن عائقا أمام حركة التنوير فى تلك المجتمعات قبل نحو قرنين من الزمن.
يشير مفهوم التنوير إلى الحركة الفلسفية التى انتشرت فى أوروبا خلال القرن الثامن عشر عندما بدأ الكثير من المفكرين التأكيد على أهمية العلم والعقل كأساس لإدارة المجتمعات، بدلا من القيم الدينية. ولم تكن كلمة «التنوير» ذاتها مستخدمة آنذاك، بل أشار كتّاب فرنسيون إلى عصر «الأنوار»، وبالمعنى نفسه تحدّث فلاسفة ألمان عن الخروج من عهود الظلام إلى النور. ولا توجد إجابة واحدة عن السؤال: لماذا كان القرن الثامن عشر هو قرن النور؟ يتحدث البعض عن صعود قيم بعينها، مثل المنطق والتسامح الدينى والحرية، كقيم انتصرت خلال هذا العصر. لكن أمرا يبدو أن جميع فلاسفة التنوير قد اتفقوا عليه، وهو أنه خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر دفعت المؤسسات الدينية المجتمعات الأوروبية إلى الحرب وعدم الاستقرار والاضطهاد الدينى، وهو الأمر الذى دعا كل هؤلاء الكتّاب إلى إعادة النظر فى دور الدين والمؤسسة الدينية فى الحياة العامة. وقد شهدت تلك الحقبة الزمنية تطورين متوازيين. الأول هو إبعاد الكنيسة عن شئون الحكم وإدارة الدولة، أما الثانى فيختصّ بالدين بحدّ ذاته، الذى تمّت تنحيته عن كونه مصدرا للقيم القانونية التى تحكم تلك المجتمعات. فقد كان جوهر الخلاف بين الكنيسة الكاثوليكية والنخب التنويرية يدور حول سؤال رئيسى: مَن هو مصدر الحقيقة وأساسها؟ بعد عصر التنوير، لم تعد القيم الأخلاقية مشتقّة من السلطة الإلهية، ولا يترتّب على ذلك بالضرورة إنكار لوجود الله، لكن مفكّرى التنوير سعوا إلى استنباط القيم الأخلاقية من العقل والمنطق، لا من النص الدينى.
• • •
تعطينا تجربة المجتمعات الأوروبية مع التنوير خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر درسين هامين. الدرس الأول هو أن تنوير المجتمعات الأوروبية لم يحتَجْ إلى دعم الكنيسة الكاثوليكية، ولا إلى تغييرٍ لعقيدتها الدينية، بل إن الكنيسة الكاثوليكية ظلّت معارضة للتنوير وما ارتبط به حتى ستينيات القرن العشرين. فمنذ الثورة الفرنسية فى العام 1789، وحتى انعقاد مجمع الفاتيكان الثانى خلال الفترة من 1962 إلى 1965، كانت مواقف الكنيسة الكاثوليكية معادية للقيم والأفكار التى أتت بها كتابات التنويريين. بعد فترة وجيزة من الثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان فى العام 1789، ندّد البابا بيوس السادس بالحرية والمساواة المطلقتين باعتبارهما قيما غير مسيحية فى إعلانه الصادر فى مارس 1791. وفى العام 1832، نشر البابا غريغوريوس السادس عشر إعلانا دافع فيه عن الحكم الإقطاعى الأرستقراطى، وأمَرَ الكاثوليك بطاعة أمرائهم. وفى العام 1864، أدان البابا بيوس التاسع بشدّة الحرية الدينية وحرية الصحافة خلال إعلان ملخّص الأخطاء، الذى ضمّ ما تعتقد الكنيسة الكاثوليكية أنه أخطر أخطاء العصر الحديث. قدّمت تلك الوثيقة ملخّصا فى ثمانين أطروحة لمجموعة متنوّعة من القضايا الفلسفية واللاهوتية والسياسية. وشملت الأخطاء طبقا لهذا الإعلان البابوى الاعتقادَ بأن لكل إنسان الحرية فى اعتناق الدين الذى يؤمن أنه صحيح على ضوء العقل؛ وكذلك أن الخلاص الأبدى يمكن على الأقل أن نأمله للجميع، حتى أولئك الذين ليسوا أعضاء فى الكنيسة؛ وأنه لم يعد من الضرورى اعتبار الدين الكاثوليكى هو الدين الوحيد للدولة؛ والخطأ الأكثر شهرة هو أن البابا يستطيع ويجب عليه أن يصالح ويتّفق مع قيم التقدّم والليبرالية والحضارة الحديثة. رأت الكنيسة الكاثوليكية فى هذه المبادئ كلها أخطاء يجب مواجهتها. وظلّت الكنيسة الكاثوليكية على مواقفها هذه المعادية لقيم التنوير حتى انعقد مجمع الفاتيكان الثانى خلال ستينيات القرن الماضى، وأعاد تعريف علاقة العقيدة الكاثوليكية بقيم الحرية والكرامة وحقوق الإنسان.
أما الدرس الثانى لتجربة التنوير فى أوروبا، فهو المتعلّق بالقيم التى تحكم تلك المجتمعات. لقد ظلّت هذه القيم محافظة لم تتغيّر إلى حد كبير طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولكن ما تغيّر فقط هو مصدرها. جادل العلمانيون الفرنسيون خلال تلك الحقبة الزمنية بأنهم أخلاقيون مثل المتدينين، لا بل ادّعوا أن قناعاتهم كانت أكثر صلابة لأنهم لم يكونوا مدفوعين بالخوف من الله، بل من إيمانهم بتلك القيم بحدّ ذاتها. فحتى ستينيات القرن الماضى، كان العلمانيون فى أوروبا يدافعون عن القيم المحافظة نفسها مثل الكنيسة الكاثوليكية فى ما يتعلق بشئون الأسرة، ووضع المرأة، والإجهاض، والمثلية الجنسية. ما حدث خلال تلك العقود لم يكن تغيّرا فى القيم الأخلاقية، بل جرت «علمنة» هذه القيم فى القوانين المدنية والجنائية باستخدام تعبيرات غير دينية. فالقوانين الأوروبية تتحدّث عن «الإساءة للأخلاق» أو «النظام العام» أو «الإخلال بالآداب العامة». وقد حوت بعض القوانين الأوروبية بعض الرؤى المحافظة، كالنص على عقوبة مخفّفة لجرائم الشرف، حيث نصّ القانون الإيطالى على معاقبة هذا النوع من جرائم القتل بالسجن لفترة تتراوح من 3 إلى 7 سنوات، وهو ما استمر حتى العام 1981.
• • •
لم تكن مشكلة التنوير إذا مع الكنيسة الكاثوليكية بحدّ ذاتها ولا مع عقيدتها، بل كانت مع رغبة الكنيسة فى فرض رؤيتها على المجتمع. وكذلك لم تكن مشكلة التنوير مع القيم المجتمعية المحافظة، بل كانت فى فرضها على المجتمع بحجّة الأمر الإلهى. إن خروج المجتمعات الأوروبية من عصور الظلام والحرب والاضطهاد الدينى لم يعتمد على تغيير العقائد الدينية، ولا على تغيير قيم المجتمع، بل على تغيير طبيعة علاقة الكنيسة الكاثوليكية بالسلطة السياسية. فلا تصير الكنيسة شريكة فى إدارة أمور الحكم، وتغيير علاقة القوانين التى تحكم المجتمع، حيث لا تعود هذه القوانين وما فيها من عقوبات ترجع إلى النصوص المقدسة، بل إلى العقل والمنطق. إن أراد التنويريون فى مصر العمل على مشروع تنويرى حقيقى، فعليهم أن يكفّوا عن مطالبة المؤسسات الدينية بالإصلاح الدينى، والمجتمع بتغيير قيمه المحافظة التى لا تروق لهم، وأن يركزوا جهودهم بدلا من ذلك على تغيير طبيعة العلاقة التى تحكم الدين بالدولة، وليس تغيير الدين بحدّ ذاته.
أستاذ مساعد بالجامعة الأوروبية بفلورنسا

جورج فهمي أستاذ مساعد بالجامعة الأوروبية بفلورنسا
التعليقات