«تغريبة بنى همام».. سيرة روائية متخيلة! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 6:07 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«تغريبة بنى همام».. سيرة روائية متخيلة!

نشر فى : الجمعة 7 فبراير 2020 - 9:30 م | آخر تحديث : الجمعة 7 فبراير 2020 - 9:30 م

ــ1ــ
مثَّلت شخصية شيخ العرب همام؛ «عظيم بلاد الصعيد» فى القرن الثامن عشر، حالة فريدة من حالات الكاريزما غير المسبوقة فى التاريخ المصرى الحديث، وفى الأدب الشعبى أيضًا، لقد أحاطته هالات من التمجيد والتعظيم، وذاع صيته وصيت أعماله فى الصعيد بأكمله بل فى بر مصر المحروسة كلها.
نجح همام فى تحويل الصعيد القاسى النائى المشهور بالفتن والثارات والصراعات بين المماليك والأمراء إلى منطقة ذات رفاهة وأمن واستقرار ورخاء ومصدر للغلال والقصب لتكون موردا اقتصاديا غير مسبوق، وظهر همام فى وقت كان فى أشد الحاجة إلى رجل مثله يقر الأمن ويحمى الفلاحين من ظلم الإدارة ومتاعب الأعراب من نهب وسلب وتشريد وتهديد للأمن والاستقرار. ورفع قواعد مجتمع يقوم على العدل والعدالة، ودفع المظالم وإطعام المحروم ونصرة المظلوم وصون العرض وحماية الأرض وساوى بين الجميع فى المعاملة والحقوق والواجبات، لم يفرق فى ذلك بين أبناء قبيلته وغيرهم من أبناء القبائل الأخرى أو بينهم وبين الفلاحين الذين كانوا يزرعون أرضهم أو من العرب الآخرين.. فالكل سواء أمامه فى الحقوق والواجبات.
استأثر «همام» باهتمام كبير فى أوساط المؤرخين والباحثين؛ وحظى فى السنوات الأخيرة بكتابات عديدة (أفردت له فصلا كاملا فى كتابى «سيرة الضمير المصرى»)، خاصة بعد أن قام السيناريست القدير عبدالرحيم كمال باستلهام سيرته فى دراما «شيخ العرب همام» وجسدها النجم يحيى الفخرانى، وأسر المسلسل قلوب الملايين إلى الدرجة التى يصعب معها منازعة هذا النجاح بأى وسيلة كانت!
لكن اللافت أن شخصية همام رغم ثرائها الدرامى لم تلفت انتباه الروائيين (على الأقل فى حدود ما قرأت) فلم يقع تحت يدى رواية استلهمت الشخصية أو أنتجت نصا يحاورها ويحاور سيرتها فى رواية تاريخية ناضجة تتجاوز التسجيل والتأريخ والتوثيق إلى طرح أسئلة راهنة، وتجسد هموما معاصرة، وتتكئ على رؤية جمالية تتمكن من خلالها تشييد هذا المتخيل السردى.
ــ2ــ
يتفق نقاد الأدب، تقريبًا، على أن كل رواية مهما كان موضوعها أو تصنيفها هى «رواية تاريخية» بمعنى من المعانى، فالرواية، وكما يشير أستاذنا القدير قاسم عبده قاسم، على نحو ما، تسجيل (تاريخى) ــ سلبى أو إيجابى ــ لظواهر اجتماعية تحمل دلالات متنوعة يسجلها الروائى، أو يحتج عليها، أو يريد إصلاحها، أو يحملها رسالته وهدفه الذى يريد للقراء أن ينتبهوا له. ورغم ذلك، فإن النتاج الروائى الجديد يتجه أغلبه بصورة كبيرة إلى «الرواية التاريخية» فى شكلها الكلاسيكى، كما كتبها أقطاب الرواية التاريخية فى الأدب الحديث.
قلّة منها تتجاوز فخ التقليد والحكى والتقليدى، وتعى أن الفن تخييل فى المقام الأول حتى وهى تعالج موضوعا تاريخيا أو تستند إلى مادة تاريخية؛ وأن قدرة الروائى ومهارته وثقافته تتبدى فى إدارة هذا الحوار أو الجدل بين المادة التى جمعها أو اشتغل عليها بحثا وقراءة وبين قدرته كروائى فى إعادة تشكيل هذه المادة ليصوغ فنا لا تاريخا!
هذا ما فعله باقتدار وتمكن وإخلاص الكاتب والروائى الصعيدى أحمد جاد الكريم فى روايته الجميلة «تغريبة بنى همام» (صادرة عن منشورات إيبيدى)، وللحقيقة فإننى تأخرت كثيرا فى قراءة هذه الرواية المهمة؛ لاعتبارات منها أننى كنت متخوفا من انزلاق الكاتب والروائى إلى استسهال الموضوع والكتابة عنه بعد نجاح المسلسل الساحق الذى ما زال يخايل الأذهان والقلوب رغم مرور عشر سنوات على عرضه الأول!
لكن جاد الكريم فاجأنى بعمله المحكم؛ وقدرته العالية على الإمساك بخيوط سرده التى وزعها على مسارين يُنطق فى أولهما الجبرتى، ويضع على لسانه الوقائع التى يريد والأحداث التى يختار ويمزج بين المتخيل والمرجعى مزجا واعيا، والمسار الثانى يكاد يكون كذلك لكن للراوى المعاصر الذى يناوشنا بحضوره ويقلقنا بوعيه ويثير إعجابنا بلغته وبقدرته المشهدية العالية فيما يتابع سرده بسلاسة وبساطة واقتدار.
تدور الرواية فى مدى زمنى يقترب من نصف القرن، ورغم أن أحداثها تنطلق بعد وفاة شيخ العرب همام بعشرين عاما، فإنها تراوح جيئة وذهابا بين لحظة الاحتكاك والاصطدام الكبرى (مجىء الحملة الفرنسية عام 1798) وبين زمن همام الأسطورى؛ وخلال هذه المراوحة سنكون فيما يشبه الحلم بين القاهرة والصعيد؛ ويأسرنا الراوى بهذه الرحلة التى نتمنى ألا تنتهى..