محمد فريد وجدى .. العالِم الفريد - رجائي عطية - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 8:54 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

محمد فريد وجدى .. العالِم الفريد

نشر فى : الأربعاء 7 أغسطس 2019 - 9:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 7 أغسطس 2019 - 9:25 م

لم أحظ بلقاء الأستاذ الجليل محمد فريد وجدى، فقد رحل إلى الرفيق الأعلى فى سنة 1954 قبل أن أتم دراستى الثانوية وانتقل إلى القاهرة للدراسة الجامعية، ولكنى ورثت تبجيله وإكباره ومحبته عن الأستاذ عباس محمود العقاد، منذ بدأ العمل لأول مرة، وهو فى سن السادسة عشرة، فى تحرير «صحيفة الدستور» التى أنشأها الأستاذ محمد فريد وجدى، وتحدث عنه العقاد غير مرة، مكبرًا فيه أنه كان نسيجا وحده فى علمه وفى منظومة أخلاقياته واحترامه لحرية رأى من يختلف معه.
فى المقالات التى ضمها كتاب «حياة قلم»، أرسل العقاد إلى الأستاذ محمد فريد وجدى تحية مستحقة، معبرًا عن إكباره لهذا الأستاذ الذى مَثَّلَ له قامة فريدة وسط المثالب التى كانت تحيط بالصحافة فى أوليات القرن العشرين: شيوع التلفيق، وضيق مجال الانتشار ومقومات الاستمرار، بانحصار الموارد فى الاشتراكات وما يعتريها، وفى الإعلانات وجرائرها، أما «الإعلانات السرية» فكانت باب جهنم.
ولكن الأستاذ محمد فريد وجدى أعلن عن عزمه إصدار «الدستور»، فلما لقيه العقاد راغبًا ــ وهو فى السادسة عشرة ــ العمل معه، فوجئ بأن هذا الهرم الكبير يحسن لقاءه، ولم يجد أيسر من الاتفاق معه على العمل فى صحيفته، فعمل فيها من عددها الأول حتى عددها الأخير، مقدرًا فى هذا العالم الفريد حرية فكره، فلا فكرة تؤخذ على أنها قضية مسلّمة لا تقبل المناقشة، ومع أن ما خالفه العقاد فيه خلال مدة العمل معه أكثر مما وافقه عليه، إلاَّ أن هذا العالم الجليل لم يغير كلمة واحدة كتبها لمخالفتها رأيه.
كان اختيار مسمى «الدستور» اسمًا للصحيفة، دالاًّ بذاته على هذا الرجل الفريد، فلم يكن هذا الاسم مُرَحبًا به، بل كان مجرد ذكر كلمة الدستور يغضب قصر «يلدز»، ويغضب قصر عابدين، ويغضب «قصر الدوبارة».. وبرغم الأزمة المالية المحيطة بالصحافة آنذاك، رفض محمد فريد وجدى طلب حزب تركيا الفتاة اعتبار الصحيفة لسان حاله فى سياستها العثمانية مع تكفل الحزب بجميع التزاماتها وبسداد ديونها، بل وآثر الرجل الذى يكرر العقاد إكباره له، آثر أن يبيع كتبه بثمن يضارع وزنها من الورق ليؤدى مرتبات الموظفين والعمال.
منذ نقل إلىّ الأستاذ العقاد فى كتاباته العديدة إكباره ومحبته للأستاذ الكبير محمد فريد وجدى، لا أدع فرصة للاطلاع على ما كتبه وما كُتب عنه. ومن الذين شاركوا الأستاذ العقاد فى هذا الإعجاب والتقدير، الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومى الذى سعدت بعضويتى معه بمجمع البحوث الإسلامية لسنوات قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى، وتابعت مدى اهتمامه بنشر أعمال هذا العالم الفريد، والكتابة عنه، وكان صاحب فضل غير منكور فى أن ينشر بملاحق مجلة الأزهر، ما كتبه هذا العالم الجليل من تحليل دقيق لمبادئ الدين الإسلامى بعنوان «الإسلام دين عام خالد» بداية من شهر ربيع الآخر 1426 هـ /2005 م، ثم كتاب: «مهمة الإسلام فى العالم»، بداية من شهر صفر 1431هـ/2009م، مشفوع كل منهما بمقدمة ضافية للدكتور محمد رجب البيومى يذكر مآثره ويشيد بما كان عليه من فضل، وبما أداه للفكر الحر وللإسلام من خدمات جليلة.
فى تقديم كتاب «الإسلام دين عام خالد» تحدث الدكتور بيومى عن واقعة ازدانت بموقف رائع للأستاذ محمد فريد وجدى الذى شغل رئاسة تحرير مجلة الأزهر عشرين عاما، وآخر للإمام الأكبر محمد مصطفى المراغى شيخ الأزهر يومئذ، وكلاهما جدير بأن يرجع إليهما المتطرفون والمغالون فى الدين الواقعون فى وهدة التعصب الضرير!
توفى عام 1943، صاحب جريدة الأهرام جبرائيل تقلا باشا، وصاحب الدور الكبير الداعم لها، فخصص الأستاذ محمد فريد وجدى، رئيس تحرير مجلة الأزهر ـ خصص صفحة كاملة للثناء عليه بعد رحيله تضمنت مقالا له فى تقدير دوره، إلاَّ أن ذلك لم يعجب الذين لا يقدرون سماحة الإسلام واتساع أفقه، فذهب بعضهم حاملين الجريدة إلى الإمام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى، ناعين على الأستاذ وجدى أنه لم يخص من انتقلوا إلى رحمة الله من كبار علماء الأزهر ـ بمثل هذا النعى الضافى، ولكن الشيخ الأكبر ابتسم لهم، وسأل محاوره عما إذا كان معه مقال الأستاذ وجدى، فلما أجابه بالإيجاب، طلب منه أن يقرأه عليهم.
أخذ الشيخ يتلو المقال منفعلا، وكان الإمام الأكبر قد قرأه سلفًا، حتى إذا بلغ القارئ منتصف المقال وهو فى قمة انفعاله، طلب إليه الإمام الأكبر أن يكمل هو قراءة المقال، ثم أخذ يتلو ما ورد فيه:
«إن الأزهر ومجلته لتشارك الأمة فى أساها، وتذكر من فضائل الفقيد الكبير ما كان يقابل به بحوث حضرات العلماء من الاحترام، ويحلها فى أرفع مكانة من الأهرام، ولطالما نشر مقالات فى موضوعات علمية بحتة كان أولى بها المجلات، ولكنه كان يؤثر أن يكون عونًا للأزهر فى أداء رسالته، وفى عهده الجديد، ومما يدل على عنايته بهذه الناحية، أنه عندما ثار جدال بين القائلين بجواز ترجمة القرآن والذاهبين إلى تحريمها، وانتصر حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى للقائلين بالجواز، نشر الأهرام بحثه فى عدد واحد على طوله، ولم يكن فضيلته شيخًا للأزهر إذ ذاك، فهذه النزعة الشريفة مضافة إلى الكثير من غيرها لا يصح أن تترك دون تقدير وإعجاب فلا غرو أن عدت خسارة الآراء الحكيمة بموته فادحة، أحسن الله عزاء أسرته، وجعل من نجله خلفًا جديرًا بسلفه العظيم».
لم ينه الإمام الأكبر كل ما يرومه بقراءته لباقى المقال بهدوء وروية، وما فيه من معانٍ كفيلة بأن تهدئ غضب الغاضبين، وإنما سألهم عما إذا كانوا قد تنبهوا إلى العبارة الأخيرة التى ختم بها الأستاذ وجدى، الذى قَدَّرَ أن الأهرام أقوى صحف العالم العربى وأوسعها انتشارًا، ويخشى أن تتخلى عن طريقة صاحبها الراحل فى تشجيع نشر المباحث الإسلامية، ومن ثم ضمن عبارة الختام الإشارة إلى واجب الخلف باحتذاء ما درج عليه سلفه، فقال ختامًا: «أحسن الله عزاء أسرته، وجعل نجله خلفًا جديرًا بسلفه العظيم»
ثم أضاف الإمام المراغى، أن فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ محمود أبو العيون، نشر مقالا ممتازًا بالجريدة اليومية عن صاحب الأهرام، وذكر فيه أكثر مما ذكره الأستاذ وجدى، ولكن أحدًا لم يعترض عليه، والواقع أنه صادف ارتياحه أن الشيخ الجليل نحى فى مقاله منحى الأستاذ محمد فريد وجدى، وبذلك انتقل الحوار من دائرة الغضب والانفعال، إلى الهدوء والموضوعية، وإلى المبادئ العامة فى الإسلام.
هؤلاء كانوا روَّادًا، يبصّرون ولا يسايرون، ويقولون ما يجب أن يُقال، وهذا أجدر بالقائل، وأصوب تعبيرًا عن الإسلام الذى يسىء إليه من تصرفهم العصبية والمغالاة، عن مناقبه وأروع ما قدمه للإنسانية.

Email:rattia2@hotmail.com
www. ragai2009.com

التعليقات