هناك قصة مشهورة، اعتقد أنها أقرب للخيال منها للحقيقة، تقول إن المخابرات الحربية فى الستينيات كانت تبالغ فى إحكام سيطرتها على وسائل الإعلام حتى بلغ الأمر الاعتراض على نشر مقال يتناول شح علب السردين فى السوق، وكان سبب الاعتراض هو أن الكاتب وإن كان لم يقصد إفشاء أية معلومات عسكرية، إلا أن المخابرات رأت أن تداول أمر كهذا على الملأ قد يفيد العدو الذى يمكن بحسبه بسيطة أن يحدد عدد علب السردين المنتجة محليا وتلك المستوردة، ويطرح من هذا العدد ما يستهلك فى السوق ليستخلص من ذلك عدد العلب التى تورد للجيش وبالتالى يمكن استنباط حجم القوة المقاتلة المصرية. وكما قلت، فإن هذه القصة كانت، فى الغالب، طرفة ولكنها طرفة ذات دلالة هامة، وكان ترديدها على نطاق واسع مقصودا منه تنبيه الناس لخطورة المعلومات وتحذيرهم من عواقب الشائعات وتذكيرهم أن حتى أتفه الأمور قد لا تكون تافهة بالمرة، وأن القائمين على الأمر يسهرون على الأمن القومى، ولكن الثرثرة غير المسئولة والشائعات المغرضة هى التى تعرض الأمن القومى للاختراق، وبالتالى يجب وضع قواعد صارمة لما يمكن أن يقال وينشر فى الصحف ووسائل الإعلام.
أقول هذا الكلام بمناسبة ما هو مطروح الآن من مشاريع قوانين تعدها وزارات مختلفة تتناول الحق فى المعرفة وحرية تداول المعلومات. وبالرغم من أننا كمجتمع قطعنا شوطا كبيرا فى هذا المجال منذ الستينيات وحتى اليوم، وأن المخابرات الحربية (التى أصبحنا نشير إليها بلفظ «جهات سيادية») قد أرخت قبضتها على وسائل الإعلام، وأننا شهدنا طفرة كبيرة فى حرية الإعلام منذ أن أصبح لدينا صحف وفضائيات مستقلة ومدونات وفيسبوك وتويتر، إلا أن العقلية الأمنية ما زالت تتحكم فى الكثير مما يتعلق بحرية النشر، وأظن أننا بحاجة لفتح حوار مجتمعى جاد حول علاقة الأمن القومى بحرية الرأى وحرية تداول المعلومات.
•••
إن المنطق الاستخبراتى المتعلق بحرية تداول المعلومات منطق محكم له وجاهته. هذا المنطق ينظر للمعلومة ككنز لا يجب التفريط فيه، ويعتبرها مهمة مهما صغر حجمها ومهما بدت تافهة عديمة القيمة. ذلك أن المخابرات، فى كل دولة فى العالم وليس فى مصر وحدها، ترى أن أهم دور تلعبه هو جمع المعلومات وحفظها ودراستها لتحديد مكمن الخطر على الأمن القومى، وبما أن مهمتها الأساسية هى جمع المعلومات فهى ترتاب، بطبيعتها، فى كل من يفرط فى المعلومة وينشرها. فكل معلومة مهمة، وكل معلومة، مهما صغرت، يمكن أن ينتج من الإفصاح عنها تعريض الأمن القومى للاختراق، وكل معلومة يمكن أن يستخدمها أعداء الوطن بخبث فى أعمال خطيرة قد لا تخطر على بال من أفصح عنها مهما حسنت نواياه.
هذا المنطق الاستخباراتى، كما قلت، منطق له وجاهته، ولا يجب على المخابرات وغيرها من «الجهات السيادية» أن تتخلى عنه، فجمع المعلومات وحفظها وعدم إفشائها هو ما يجب على أى جهاز استخبارات القيام به.
•••
على أننا كمجتمع يجب أن نوائم بين هذا المنطق الاستخباراتى ومنطق الإتاحة وحرية تداول المعلومات الذى يرى، فى المقابل، أن قيمة المعلومة تكمن فى نشرها واتاحتها وتداولها، وليس فى حفظها واكتنازها. هذا المنطق المقابل، ولنسمه، المنطق الحقوقى، يرى أن حرية تداول المعلومات حق أصيل من حقوق الإنسان، لا يجب السماح بمصادرته أو الانتقاص منه، وأنه وإن كان المنطق الاستخباراتى له وجاهته فلا يجب أن نسمح لمحاذير الأمن القومى أن تقلص حق تداول المعلومات إلا فى أضيق الحدود.
هذا المنطق الحقوقى يرى أن من شأن السماح بحرية تداول المعلومات تعزيز قيم الديمقراطية والمشاركة المجتمعية. فالمعلومات ضرورية لتفعيل الممارسة الديموقراطية، فإذا كان الشعب لا يدرى بما يحدث فى مجتمعه، وإذا كان ما يقوم به المسئولون الحكوميون والقائمون على الشأن العام مخفيا عن الأنظار ومحاطا بالسرية فلن يتمكن أفراد الشعب من المشاركة فيما يحدث فى مجتمعهم. كما لا يخفى على أحد أهمية حرية تداول المعلومات فى العملية الانتخابية، فبدون الاطلاع على تفاصيل البرامج الانتخابية للمرشحين لن يتمكن الناخب من المفاضلة بينهم. وبالمثل بدون إتاحة المعلومات عن ميزانيات الوزارات والهيئات الحكومية وخططها المستقبلية وهيكل إدارتها، وغيرها من المعلومات الرسمية، لن يتمكن المرشحون أنفسهم من رسم سياساتهم وبنائها على قاعدة صلبة من البيانات.
كما أن إتاحة المعلومات تمكن أفراد المجتمع من تفعيل رقابتهم على أجهزة الدولة وبالتالى يمكن أن تساهم بشكل فعال فى الحد من الفساد وسوء استخدام السلطة. وبالتالى فإن حرية تداول المعلومات ضرورية لرفع كفاءة الجهاز الحكومى وتحسين أدائه، ومن الأدلة على ذلك ما يقوله أمارتيا سن، الحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد، من أن المجتمعات الديمقراطية التى تتمتع بصحافة مستقلة وبحرية تداول المعلومات لم تشهد أية مجاعات قاتلة.
ومن نافلة القول إن حرية تداول المعلومات ضرورية ولا غنى عنها للصحافة وللبحث العلمى. فكم سمعنا عن معاناة الصحفيين من صعوبة الوصول لمعلومات وبيانات دقيقة بسبب امتناع الجهات الرسمية عن تزويدهم بها. وكم سمعنا عن مشاريع بحث أكاديمية تعثرت وقُتلت بسبب غياب تصريح الأمن أو بسبب اعتراض الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء على استمارة استطلاع رأى تقدم بها الباحث بحجة أن استطلاعات الرأى يمكن أن تمد العدو بمعلومات عن الجبهة الداخلية وبالتالى يمكن أن تعرض الأمن القومى للخطر. وكان من نتاج هذه المحاذير الأمنية أن تدنى مستوى كل من الصحافة والبحث العلمى فى بلادنا.
كما لا يخفى على أحد أهمية إتاحة المعلومات لأى نشاط استثمارى. فالمستثمر الجاد، بطبيعة الحال، يهمه القيام بدراسة جدوى قبل البدء فى مشروعه، وهذه الدراسة لا معنى لها إلا إذا كانت مبنية على حقائق وأرقام وإحصاءات دقيقة يجب على الجهاد التنفيذية والإدارية أن تقدمها له. ولكن الواقع يخبرنا أن كثيرا من جهود المستثمرين ضاعت بسبب تعنت الجهات الإدارية فى تلبية طلبات الحصول على هذه المعلومات الضرورية.
•••
وبالتالى فإن كان للمنطق الاستخباراتى المتعلق بحرية تداول المعلومات وجاهة، فإن المنطق الحقوقى، هو الآخر، له وجاهته. فحسب هذا المنطق الأخير من شأن إتاحة المعلومات ونشرها أن تساهم فى دعم الأمن القومى، فأى دعامة للأمن القومى أقوى من مواطن مسئول يباشر حقوقه السياسية بناء على علم ودراسة، ومن صحفى مجتهد يبنى أخباره وتحليلاته على معلومات دقيقة، وأكاديمى جاد يستطيع أن يساهم فى نهضة بلده العلمية بإجراء أبحاث وتجارب فى بيئة علمية منفتحة، ومن مستثمر يستطيع أن يدرس السوق حتى يتخذ قرارا ببناء مصنع أو ورشة أو دكان؟
قد يكون صحيحا أن نشر أخبار عن علب السردين المتاحة فى الأسواق هو ما عرض أمننا القومى للخطر عام 1967، ولكن يمكن القول أيضا إن ثقافة الحظر والمنع والتعتيم وما تبعها من انعدام الشفافية وضعف الرقابة الشعبية على مؤسسات الدولة كانت الخطر الأكبر على الأمن القومى. إن هزيمتنا فى 1967 لم تكن بسبب نشر معلومات عن علب السردين فى السوق، بل تحديدا بسبب عدم نشر هذه المعلومات.