النظرة الأخيرة - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 7:21 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

النظرة الأخيرة

نشر فى : الخميس 8 نوفمبر 2018 - 9:40 م | آخر تحديث : الخميس 8 نوفمبر 2018 - 9:40 م

ودّ حامد لو أن السيارة التي تأخذه إلى مطار دبي صار لها جناحان وتحولت إلى طائرة، نعم طائرة تسلمه إلى طائرة أخرى تحط به على أرض القاهرة، من فرط استعجاله أثار حفيظة السائق الباكستاني المهذب فقد بدا لهذا الأخير أن الراكب لحوح أكثر مما ينبغي. ربما لو شرح حامد للسائق سبب عجلته لكان قد تفهم موقفه، لكنه لم يشرح شيئا فظل الموقف على ما هو عليه. لم يجد حامد نفسه مستعدا للكلام، هو في الأصل ليس ممن يبادرون الغرباء بالكلام ولا يتباسطون معهم، واليوم بالذات أصابه خرس مفاجئ فلم يفتح فمه إلا ليكرر بعصبية كل بضع دقائق: بسرعة من فضلك .
***
بينه وبين نفسه كان حامد يعرف أن السائق قليل الحيلة فالزحام يحاصر التاكسي من كل الاتجاهات ولا يترك أي فرصة للمناورة، ومع ذلك بدا انفعاله طاغيا. في مرآة السيارة انعكست صورة شخص يشبهه كثيرا لكن الأصل-أي حامد- أفضل منها فهو عادة ما يكون حليق الذقن ، مهذب الشارب، ساكن الملامح، والصورة التي تطالعه ليست كذلك. بدا وكأن سهر الأيام القليلة الماضية أجرى نوعا من الفوتوشوب على شكله فإذا هو لم يعد هو، حدّثه صوت من داخله قائلا: ليس شائعا أن يجعل الفوتوشوب شكل الشخص أسوأ، لكنه لم يبتسم لهذه المزحة العابرة بل بدا له الاهتمام بها سخيفا، فكل حواسه مستنفرة للتعبير عن شعور محدد دون سواه : القلق. بسرعة من فضلك قالها مجددا للسائق فلم يعره التفاتا.
***
عشر سنين يقطع هذه الطريق مرات عديدة، يستقبل ويودّع أهلا وأصدقاء، ويذهب لزيارة الحاجة علي الأقل مرة واحدة في أجازة الصيف. الحاجة هي التي شجعته علي اتخاذ قرار السفر بعد أن تخرج وعلّق شهادته علي الحائط وجلس ينتظر. كان مترددا في البداية باعتباره الابن البكري الذي يسأل ويطمئن ويوّد، صحيح أنه لم يملأ الفراغ الذي تركه أبوه من خلفه لكنه حاول ألا يتمدد هذا الفراغ أكثر، في كل أسرة يوجد عامود يرفعها وكان هو هذا العامود وإن كان له عدد من الإخوة. عندما يتذكر إخوته يتحول قلقه إلى غضب كبير، لقد أخفوا عليه مرض الحاجة، لا لم يخفوه بالضبط لكن هوّنوا من أمره، قالوا له أزمة وتعدي وأمه كانت كثيرة الأزمات، هو يعلم ذلك جيدا. عندما يتقدم بنا العمر تتحول أعضاء الجسم إلى ما يشبه الأجهزة الكهربائية التي تفصل أو تتوقف بعد فترة من التشغيل المتواصل، وفي حالة أمه كانت فترة التشغيل تطول أحيانا وتمتد لبضعة أيام أو حتى لشهور فكانت الدنيا تضحك له فلا ونس إلا في وجود الحاجة ولا بركة إلا بدعائها، لكن أوقات التوقف والعطب كانت عصيبة. اشربي مياه يا حاجة.. لو لي خاطر عندك اشربي قدر طاقتك.. تلك كانت آخر كلماته لها، ولأجل خاطره وعدته أن تحاول. بسرعة من فضلك قالها ولعق دمعة غامت معها صورة شبيهه في مرآة السيارة .
***
علي باب المطار رن هاتفه فانقبض قلبه، يعرف إخوته أنه في الطريق إليهم فما الداعي للتأكيد، هل ما يريدونه فعلا هو التأكيد؟ لاااااااااا طويلة جدا وعميقة جدا دوّت في أرجاء صالة المغادرين، سقطت حقيبته الصغيرة من يده وفاضت عيناه بشلال من الدموع، وقع المُقدّر وحدث ما كان يخشاه، والآن هم يستأذنونه في تشييع أمه قبل قدومه، يستحيل .. لن يحدث هذا أبدا.. سيكون إلى جانبها كما عوّدها وسيُعني بآخر تفاصيلها الصغيرة. تحولت الجملة التي كان يكررها على السائق: بسرعة من فضلك إلى جملة أخرى يسكنها الشجن كله والقهر كله: لن يواري أمي الثرى أحد سواي.. لن يواريها الثرى أحد سواي.. لن لن لن، استمات حامد في الدفاع عن حقه في وداع أمه، هل هذا كثير؟ . جثا علي ركبتيه راكعا فاعتصر قلوب الجميع، من فهم لغته ومن لم يفهمها، هناك فاجعة في الأمر هذا لا شك فيه والفواجع تشرح نفسها بنفسها. الخط مفتوح وحامد ينشج دون توقف، انشقت الأرض عن كهل ستيني خطف منه الهاتف دون استئذان ووجه كلامه لإخوة حامد بلهجة آمرة عبر الأثير: الرجل منهار والوقت ما زال مبكرا فانتظِروا حتى يصل ويلقي على أمه النظرة الأخيرة. تحلق عدد من المسافرين حول حامد يتابعون الموقف باهتمام حقيقي، حاول أحدهم أن يرفعه من الأرض، وعرضت عليه أخرى منديلا ورقيا، وثالثة زجاجة ماء، ورابع وخامس. أنهى الكهل مكالمته وقد بدت على وجهه علامات ارتياح، التفت إلى حامد وربت كتفه قائلا: اطمن يا أستاذ ستري أمك.. صدقني سوف تراها.. هم وعدوا بذلك .
***
للعجب العجاب ما أن أنهي الكهل جملته هذه حتي علا تصفيق المسافرين، هل هذا معقول ؟ بدا الموقف سرياليا بامتياز، تعبير تلقائي عن الفرحة في لحظة حزن طاغ، لكن هذه هي الحياة : كتلة من المتناقضات. وكما ظهر الكهل فجأة ذهب فجأة وكأنه كان هناك دور يبحث عن بطل كما قال هيجل فتقدم لأدائه الرجل الغريب، والحق أنه لولاه ما تغيرت دفة الأحداث فقد كان حامد في حالة ضعف مطلقة. وسط حالة الهرج لم تتبين امرأة - تشي ملامحها بأنها من أصول آسيوية - ماذا جدّ في الأمر بالضبط حتى يختلط التصفيق بالنحيب، فراحت تسأل ذاهلة .
***
كانت تلك هي أسرع مرة ينهي فيها حامد إجراءات سفره بعد أن صارت قصته حديث المطار، تسابق الجميع إلى مساعدته بحب وأريحية تامة، حتى حزام مقعده نابت المضيفة عنه في ربطه وهو في وضع استسلام. أخرج مصحفه الصغير من جيب السويتر وراح يقرأ ويقرأ ويقرأ، تماوجت الآيات تباعا أمام عينيه المغرورقتين، لكنه لم يكن وحيدا علي أي حال فقد كان طيف الحاجة يقرأ معه.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات