«أشرف عبدالغفور» رحيل فنان أصيل - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الجمعة 10 مايو 2024 1:00 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«أشرف عبدالغفور» رحيل فنان أصيل

نشر فى : السبت 9 ديسمبر 2023 - 8:40 م | آخر تحديث : السبت 9 ديسمبر 2023 - 8:40 م
ــ 1 ــ
غياب فنان قدير بحجم «أشرف عبدالغفور» خسارة فادحة جدا.. خسرنا فنانا كبيرا من الطبقة الممتازة، ممثل محترف بكل ما تعنيه الكلمة، أداء وتشخيصا وصوتا وتقمصا، وفى كل ما أدى من أدوار على المسرح (وهو من صفوة ممثلى المسرح)، وعلى شاشة التليفزيون، كان بارعا ومقنعا للدرجة التى لا تشك أبدا أنه يمثل أو يؤدى دورا محفوظا أو مرسوما له فى سيناريو محكم (لا أنسى أداءه أبدا لدور الخليفة عبدالملك بن مروان فى مسلسل «عمر بن العزيز» إذا لم تخنى الذاكرة)، هذا فنان مثقف قارئ يعلم خفايا ودقائق هذه الشخصية المعقدة؛ المركبة (لكن هذا حديث يستدعى مقاما آخر). وقس على ذلك أدواره التاريخية والدينية البارزة فى مسلسل «عمر بن عبدالعزيز» و«هارون الرشيد»، وفى فيلم «الرسالة»، وغيرها من الأعمال التاريخية والدينية. رصانته التمثيلية، وصوته الهادئ الواثق ولغته العربية الفخيمة الرائقة، كل ذلك كان يؤهله لأداء أدوار تاريخية مميزة يصعب على غيره القيام بها!
كما لا أنسى دوره المميز فى مسلسل «زيزينيا» للراحل أسامة أنور عكاشة، وتجسيده لشخصية ابن البلد الوطنى المناضل «الطوبجى» المطبعجى الأمين، وكاتم أسرار سيدة الأعمال الإيطالية صاحبة المطبعة التى يعمل بها. وكذلك أدواره فى المسلسلات التى شارك فيها فى السنوات الأخيرة (جبل الحلال، ورشيد، وغيرهما) .
ــ 2 ــ
أيضا كان ــ رحمه الله ــ من أبرز فنانى الإذاعة المصرية فى برامجها الذهبية وأعمالها الدرامية التى لا تنسى.. أول ما تعرفت عليه من خلال البرنامج عظيم الأثر «كتاب عربى علم العالم» مع نجوم الدراما الإذاعية المصرية وعمالقتها الأفذاذ: محمود مرسى، نادية رشاد، مديحة حمدى، عبدالرحمن أبو زهرة، جلال الشرقاوى، مدحت مرسى، وغيرهم.. أداؤه الواثق ونبرته الواضحة وعربيته الجزلة الرصينة المنضبطة كانت تحديدا نقاط سطوعه وتفوقه وظهوره؛ أتصور أنه كان من الممثلين «المثقفين» ثقافة عريضة وأصيلة وحقيقية وليس مجرد قشور للاستعراض والمنظرة!
وقد أهلته هذه الثقافة، فضلا على ما حباه الله إياه من قبول وحضور، وقدرة تشخيصية هائلة، كى يكون من «البارعين القليلين» الذين تميزوا أداء وفعلا فى الأدوار التاريخية والتراثية التى لا يمكن أن تبقى فى الذاكرة إلا إذا كان من يؤديها ممثل متمكن، وموهبته كعيار الذهب الخالص.
عشرات البرامج الإذاعية (أذكر منها: «النص الأصلى»، و«كتاب عربى علم العالم»، وبرامج أخرى عن شخصيات أدبية وفكرية وتاريخية.. إلخ) والمسلسلات الإذاعية (أداؤه لدور شمس الدين الناجى فى الحكاية الثانية من «الحرافيش») وغيرها كثير جدا.
ــ 3 ــ
وسأتوقف قليلا هنا فى محاولة لتحليل أدائه لشخصية «شمس الدين الناجى» ابن «عاشور الناجى» فى الحكاية الثانية من «الحرافيش»، التى أداها للإذاعة المصرية فى الثمانينيات من القرن الماضى، وكان الفنان القدير حمدى غيث قد أدى شخصية «عاشور الناجى» فى الجزء الأول من المسلسل، وقام أشرف عبدالغفور بأداء شخصية «شمس الدين الناجى» فى الجزء الثانى.
وهذه الشخصية تحديدا (مع شخصية جلال صاحب الجلالة) من أعقد وأغرب شخصيات «ملحمة الحرافيش» أروع وأعظم ما كتب نجيب محفوظ فى ظنى، هذه الشخصية التى كانت تنطوى على قلق وجودى دفين واضطراب شعورى يصعب توصيفه، إنه الشخصية الانتقالية بين تصوف وروحانية عاشور الناجى وقربه من السماء وتماهيه مع الخلاء والتكية (رمز الروحانية والتصوف فى أعمال محفوظ) وبين دنيوية الشخصيات التالية من نسل عاشور الناجى وسلساله (المقدس والمدنس على السواء) .
ــ 4 ــ
لفتنى أداء أشرف عبدالغفور لهذه الشخصية وإدراكه لهذا البعد القلق المتوتر فى تركيبها، وفى ملامحها النفسية، وفى صراعاتها، وبرغم أنه أدى الدور صوتيا فقط (عبر أثير الإذاعة) فإنه نجح نجاحا باهرا فى إبراز هذا الارتباك الشعورى، وهذا القلق النفسى، والاضطراب الروحى، فهو مثل أبيه يؤمن بالعدل، وبأن القوة التى منحت له لا بد وأن تكون فى خدمة الخير وصالح الناس، ويؤمن مثل أبيه بحق الحرافيش فى العيش بكرامة وإنسانية، وإن كان فى قرارة نفسه قد بدأت تخايله مشاعر احتقار لهم ونفور من خنوعهم واستكانتهم، وفى الوقت ذاته تخايله القوة الهائلة التى ورثها عن أبيه فتغريه ببعض مفاتن العيش والرفاهية، ولكنه يقاوم مقاومة شريفة، ولا يستسلم لهذه الغواية حتى رحيله.
وهو يحب زوجته ورفيقة دربه ويخلص لها، لكن فى الوقت ذاته عندما تعرض له نزوة عابرة لا يعارضها، ويسقط فى «الخطيئة» التى تورثه الندم والغضب والعنف والانتقام.
لا أشك لحظة أن أشرف عبدالغفور قد غاص فى أعماق وأبعاد هذه الشخصية «المركبة»، وحللها تحليلا مفصلا، ورسم لنفسه خطة لتجسيدها «صوتا» بحيث يصل فى النهاية إلى إحداث هذا الأثر فى نفوس مستمعيه، فيصلهم بمنتهى البراعة والسلاسة طبيعة هذه الشخصية المركبة واصطخابها بالصراعات التى لا تنتهى.
ولا أشك أبدا أن أشرف عبدالغفور قد قرأ «الحرافيش» أكثر من مرة، ووعى وضعية شخصية شمس الدين بين فتوات الحرافيش، وفى تسلسلها بين عاشور الناجى الأب المؤسس وعاشور الأخير (صاحب حكاية التوت والنبوت)، وبينهما جلال صاحب الجلالة الباحث عن الخلود ولو بعقد صفقة ملعونة مع الشيطان!
ــ 5 ــ
هذا رجل أحببته وأحببت فنه وأداءه.. صحيح أننى لم ألتق به ــ رحمه الله ــ ولا مرة.. لكن تبقى السيرة أطول من العمر.. والإنجاز الحقيقى شاهدا على صاحبه.. رحمه الله ورحم كل من قدم فنا أصيلا وإبداعا حقيقيا يمتع الناس، ويفيدهم ويساهم خطوة فى السير على طريق المعرفة والجمال..
رحم الله أشرف عبدالغفور، وأسكنه فسيح جناته، وخالص العزاء لأسرته، ولكل محبيه وعاشقى فنه.