البسيسة والثورة والعولمة - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 4:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

البسيسة والثورة والعولمة

نشر فى : السبت 10 سبتمبر 2016 - 9:30 م | آخر تحديث : السبت 10 سبتمبر 2016 - 9:30 م
وقعت فى غرام البسيسة بعد أن اكتشفتها على كبر، وأخذت أروج لهذا النوع من الحلو الصعيدى الذى يمتزج فى حباته طعم القمح بالذرة ويضاف إليه الحليب الدافئ ورشة من القرفة والسكر، فيما يشبه طبق البليلة الشتوى الأكثر انتشارا. لم أتذوقها سوى أخيرا فى أحد المطاعم الصغيرة التى تروج للمطبخ المصرى التقليدى الذى غالبا ما يتهم بعدم تنوعه، إلا أن عددا من أصحاب المشروعات البسيطة يعرفون سلفا أنه من المضمون الاستثمار فى مجال الأكل فى مصر وأن السوق لا تزال مفتوحة أمام من يصنع المأكولات المحلية والشعبية، خاصة من يعيد اكتشاف بعض الأطباق والأصناف التقليدية التى تعتبر شبه مجهولة خارج محيطها الجغرافى أو تكاد تنقرض. وبالتالى خلال السنوات الأخيرة، ظهرت المحال التى تقدم طبق كشرى بالحب الكامل أو بامية الويكا أو العيش الشمسى بالحلبة بعد أن تحول إلى «توست» طرى أصفر اللون، إلى ما غير ذلك.

وهو فى حد ذاته شىء لطيف، حتى وإن أثار حفيظة بعض الذين يعرفون الطعم الأصلى لهذه المأكولات ويرفضون تغيير وصفاتها بالحذف أو الإضافة أو التحديث، وموقفهم بالطبع مفهوم ويحترم.


***

وعلى صعيد آخر، هناك من أخذ على عاتقه إعادة إحياء التراث الغنائى المصرى أو الصوفى وخلافه. وبدأت فرق شابة تلاقى نجاحا عند تقديمها فن المونولوج الفكاهى أو الأدوار القديمة أو أعمال من الفلكلور الصعيدى، بعضها صار مشهورا ودارجا على الألسنة مثل مربعات السيرة الهلالية أو أغانى الجعافرة أو الحجيج والموالد، وبعضها أقل ذيوعا ويحتاج إلى شغل متخصص فى الموسيقى الإثنية لتأصيلها ومعرفة جذورها. تحذف أحيانا العبارات اللاذعة أو التى قد تعد إباحية فى نظر عامة الناس، وفى مرات يتم تسريع الإيقاع لكى يتماشى مع العصر، أو تمتزج طرق الغناء الصوفية فيدخل التركى فى الفارسى ويختلطان بالمصرى.

قد نحب أو لا نحب التوليفة الجديدة. وقد نعترض على ما طرأ على القديم. وقد يظهر من يفضل إحياء التراث بحذافيره دون إضافات. جميعها محاولات تحترم، وعلى اختلافها تصب فى إطار الاهتمام بالإرث الثقافى والرجوع إليه. وهو ما نلاحظه أيضا بالنسبة للحرف التقليدية التى أهملت طويلا، رغم أنها كنز لا يفنى.

نتعرف من وقت لآخر من خلال شبكات التواصل الاجتماعى على تصميمات وأسماء جديدة تستلهم شغلها من التراث، فنجد طاولات الزهر الخشبية المطعمة بورق البردى أو أكواب الزجاج اليدوى أو فساتين زفاف سيوة وقد تحولت إلى ملابس سهرة أو ستائر المنزل القطنية التى تحمل أحرفا عربية أو صور راقصات، إلخ. جيل من المصممين ومحال متخصصة فى هذه النوعية من الديكور ومستلزماته، بعضها فى متناول اليد وبعضها يبالغ فى السعر، لكنها تصب جميعا فى الاتجاه نفسه، نحو مزيد من المصرية فى الأكل والشرب والغناء، حتى لو كانت مصرية مصطنعة أو فلكورية أو معلبة أو محسنة أو محدثة أو مستحدثة أو مهجنة أو بالبلدى «ملعوب فيها» أو «أصلى» (كووول) بلغة الجرافيتى. هذا موجود وهذا موجود. وكل شىء وارد.


***

ظنى أننا فى مرحلة تشبه ما بعد الحرب العالمية الثانية فى أوروبا، حين تنامى الاهتمام بالفلكلور وشاعت الفرق التى روجت له فى خمسينيات القرن الفائت للتمسك بالهوية الثقافية فى ظل الأزمات السياسية. نشعر وكأن شيئا ما يتسرب من بين أصابعنا فنحاول أن نمسك به قبل أن ينفرط العقد. أغرس قدمى فى الأرض لأشعر بها من تحتى فأشعر بمزيد من الثقة بعد أن اهتزت، لأن الظرف صعب سواء فى زمن الثورات والانتفاضات العربية أو فيما قبلها، إذ إن ارهاصات هذا الاهتمام بدأت قبل ثورة يناير بسنوات. عناصر الأزمة السياسية والعولمة تتداخل بشكل يصعب فصله: أخاف أن أذوب فى المحيط الأكبر الأعم لذا أتمسك بمحليتى وهويتى، وأحاول أن أشكل شخصية مختلطة تشبهنى فى وضعى الحالى، ولكن أيضا تحمل حنينا لا يمكن إغفاله لعصور ما قبل الأزمات، حين كان الناس يتحدثون عن حياة رغدة وراحة البال.

ينتعش «سوق الذاكرة» فى مثل هذه الظروف، كما لو أننا لا نستطيع الذهاب إلى المستقبل دون الرجوع إلى الماضى وإنعاش موسيقاه وأغانيه وأكلاته. هناك من يتوقف كثيرا عند الحقائق التاريخية وتدقيقها وتدوينها، وبيننا من يسير مدفوعا بالحنين، وكلاهما يتقابلان عند نقطة معينة لبعث الماضى الذى نعرفه، فى مقابل ما لا نعرفه وما هو آت.
التعليقات