عن التعليم والتلقين والتفكير! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 12:26 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن التعليم والتلقين والتفكير!

نشر فى : السبت 11 يونيو 2022 - 9:20 م | آخر تحديث : السبت 11 يونيو 2022 - 9:20 م

ــ 1 ــ
كنتُ ــ وما زلتُ ــ على قناعتى بأن إصلاح أحوالنا جميعا وعلى كل المستويات يبدأ وينتهى من «التعليم»! قبل أسبوعين تقريبا كنت أشارك فى فعاليات معرض أبوظبى للكتاب الـ31، بمحاضرة عن مشروع طه حسين الإصلاحى، وكان مما استهللتُ به محاضرتى، وأكدت عليه مرارا وتكرارا، أن التعليم عند طه حسين لم ينفصل لحظة عن «الثقافة» ولا «الثقافة» يمكن أن تنفصل عن التعليم، وكلاهما يشكلان لُبَ السعى إلى المعرفة بمعناها العصرى الحديث؛ المعرفة من حيث هى ثروة وقوة واستثمار وكل شىء!
قلتُ بالحرف الواحد إن طه حسين كان وزيرا للمعارف العمومية، ولم يكن هناك وزارة للثقافة ولا هيئات ومؤسسات مستقلة للترجمة والنشر، كانت كل هذه الأمور ضمنًا تقع ضمن مسئوليات الوزير! فكان هناك إدارة للثقافة، وكان هناك إدارة للترجمة، وكان هناك إدارة للبرامج والتخطيط؛ ومن لا يصدقنى يمكنه مراجعة بيانات وإحصاءات وإنجازات عامين فقط قضاهما طه حسين وزيرا للمعارف العمومية!

ــ 2 ــ
تزامنت هذه المشاركة وهذا الانشغال بما كتبه صديقى وأخى محمود عبدالشكور على صفحته الجماهيرية ذائعة الصيت على «فيسبوك» حيث كتب أيضا (كمان وكمان: التعليم «الحقيقى» هو الذى يمنح الطالب مفاتيح التعامل مع المعرفة بصورة حرة ونقدية، وهو الذى يكتشف مهاراته ومواهبه وينميها، وهو الذى يجعله شخصية أكثر نضجا واستقلالية، أما التعليم الذى يحشر معلوماتٍ ويستردها فاسمه «تزغيط» مش «تعليم»!).
كلمات بسيطة وناعمة، ولكنها جارحة فى تحققها وتجسدها، وما نعانيه بسبب حدوثها واستمرارها طوال العقود الماضية.
منذ سنوات طويلة، وقد كتبت مرارا هنا فى مقالى بالشروق، ونحن ننادى ونصرخ بأن التعليم الحقيقى لا يعنى الحفظ ولا التلقين ولا تكريس فكرة نموذج الإجابة أو «الإجابة النموذجية» أو «القالب».
سنوات وسنوات، ونحن ندفع ثمنا باهظا لتسييد هذه الفكرة المتخلفة.. أعرف طلابا فى سنوات التعليم المختلفة بل فى كليات العلوم والطب والصيدلة والهندسة كانوا يستظهرون مسائل الرياضيات والفيزياء ومعادلات الكيمياء!! يستظهرون «الخطوات» ولا يكادون يفارقونها قيد أنملة، ولا يدركون أبعاد طريقة التفكير العلمى ولا المنهجى، ولا يمتّون بصلة ولو بأدنى معرفة لهذه الأفكار التى يعدونها ــ ويعدها قطاع وافر من أساتذتهم ــ من سقط المتاع ومن رفاهية المرفهين!
أما الأدهى فكان تسييد فكرة التفوق التكنولوجى أو التطبيقى أو العلمى على حساب المعرفى والإنسانى والفلسفي! يتصورون أن مواكبة العلم يعنى تعلُم واستيراد تطبيقاته فقط، وليس دراسة وفهم الجذور المعرفية ولا الأفكار التى أدت إلى تحرره واستقلاله وازدهاره.

ــ 3 ــ
ومنذ فترة ليست قليلة، كنت قرأتُ شهادة أذهلتنى لأحد الكتاب الشبان الواعدين حديثى التخرج، ولأهميتها وضرورتها ودلالتها، سأحاول هنا بتصرفٍ طفيف فى الصياغة، وتعديل بعض الجمل للتأكيد على المغزى الكلى لها؛ أن ألخص هذه الشهادة؛ كتب صاحبها يقول:
بما أنها أشهر وأتخرج، فبعد أكثر من 13 سنة فى التعليم، أحب أن أقول بمنتهى الثقة: أنا لم أستفد أى شىء. تخرجت وبداخلى غضب ودهشة شديدة من قدرة هذه المؤسسات على تخريب الإنسان وشل قدرته على الفعل والقول والتفكير (والتعبير)، والعمل على تحويله لمتلقٍ سلبى، كل دوره ينحصر فى الاستماع إلى كلام الأساتذة والآباء. سعيد أننى لم أترك نفسى لهم، ولم أستسلم لهذا الانصياع والانبطاح، كنت أذهب إلى المدرسة والجامعة، وأحضر الدروس والامتحانات، لكن عقلى وقلبى وكل حواسى، وخلايا الاستقبال النشطة، هربت من فوق سور هذه المؤسسات، وانفتحت على عوالم أخرى، مدين أنا لها بكل شىء: الكتب والسينما والموسيقى، المحاضرات العامة والندوات التثقيفية على هامش مناقشة كتاب جديد هنا أو هناك، ورش الكتابة الإبداعية، وكل الفعاليات والأنشطة الثقافية التى يشارك فيها مثقفون حقيقيون ليسوا باحثين عن الشهرة ولا البروباجندا، مثقفون يعرفون قيمة المعرفة، يوفونها حقها ويمررونها بكل بساطة وحب، ولا يعطونها كفرض واجب أو كحقن إجبارى أو يعتبرونها سرديات متعالية لإظهار أنهم مثقفون على سبيل المباهاة والتباهى. لا أحمل كلمة شكر واجبة أوجهها إلى مدرس لى فى المدرسة مثلا أو «أستاذ» أو «دكتور» حاضرنى فى الجامعة، لا أذكر منهم أحدا، لأنى لم أتعلم منهم شيئا يذكر! كل ما تعلمته تعلمته بمبادرة فردية ومعاناة ذاتية، تعلمته بمجهودى واجتهادى، ومذاكرتى وبحثى وشغفى الخالص للاطلاع والمعرفة. تعلمتُ كثيرا من أصدقاء لى ومعارف أدين لهم بالكثير حتى لو لم أقل ذلك بشكل صريح.
إننى حزين على طلابٍ وطالباتٍ كثيرين جدا يتركون أنفسهم وأدمغتهم وعقولهم بالجملة لعمليات «تعليب واجترار وتخزين الأدمغة» التى تتم فى المدارس والجامعات، آلة تفرمهم وتلفظهم فى سوق العمل بلا أى معنى ولا هدف ولا تأهيل ولا معرفة حقيقية يواجهون بها مستقبلهم.. (انتهت الشهادة).

ــ 4 ــ
هذه الشهادة فى ظنى وتقديرى غاية فى القيمة والأهمية والدلالة.. ولو كان لدينا مؤسسة بحثية واحدة فقط أو مركز معتبر للتحليل الاجتماعى والثقافى الدقيق، لتعاملت بالجدية والاحترام اللائقين بهذه الشهادة الدقيقة المعبرة، الأمينة، بل لعلى أعتبرها لسان حال الآلاف (لا أتردد فى الظن بأنهم آلاف الآلاف).
وحتى لا يتهمنا أحد بالتعميم والإفراط.. أقول إن هذه الشهادة بالتأكيد تنبع من خبرة وتجربة صاحبها الذى يعد مثالا جيدا للقراءة والتحليل والدراسة.
إن هذا الشاب الذى استطاع النجاة من مفرمة التلقين والتجرار والقولبة ذكرنى بالشاب الذى كنته قبل ما يزيد على العشرين عاما، بالضبط كنت مثله.. لكن بدون «إنترنت» ولا «سوشيال ميديا» ولا «أصدقاء مجانين مثلى».. كنت وحدى بصحبة كتبى وعشرات المفكرين والمثقفين والمبدعين، أكلمهم وأسألهم وأسترشد بآرائهم إلى أن التحقت بكلية الآداب فلحقتُ ثمالة عطرة من بستان ورود وأزهار للأسف جفَ أكثرها وذبل أغلبها وتصحر باقيها.
أرجوكم اهتموا بهذه الشهادة فلعلها تكون نقطة نور نبحث عنها منذ زمن طويل!