«أمين يغتصب فتاة معاقة»، «بالفيديو: أمناء يسخرون من جثة قتيل ويضعون سيجارة فى فمه». هكذا طالعتنا بعض عناوين الصحف فى أقل من يومين. والسجل حافل بانتهاكات الأمناء من قتل وسحل إلى ابتزاز وفرض إتاوات. فى المقابل يبرر البعض تلك الأحداث زاعمين أنها حالات فردية ولا يجوز التعميم. بينما تكشف هذه السلسلة الطويلة من الانتهاكات عن خلل كبير فى تموضع أمين الشرطة فى الحياة اليومية وعلاقته بكل من بنية السلطة وبنية المجتمع فى مصر.
الأمين: سيد الحياة اليومية وبطل عصر مبارك
بشكل موسع يمكن اعتبار الأمين أحد أعمد بنية السلطة القديمة فى عمليات الهيمنة والإخضاع الاجتماعى لعصر مبارك المستمر حتى الآن. ففى تسعينيات القرن الماضى أوغلت مؤسسة الداخلية فى الاعتماد المكثف على الأمناء والمخبرين. وكان ذلك لثلاثة أسباب: زيادة عدد السكان وبدء تفشى العشوائيات، والحرب على الإرهاب، وضعف التواجد الشرطى بشكله المؤسسى فى كافة أرجاء المدينة. وينحدر الأمناء من خلفيات اجتماعية وطبقية مختلفة عن الطبيعة البرجوازية أو القبلية لضباط الشرطة. مما يتيح لهم فهما أعمق لديناميكيات الأحياء الشعبية وطبيعة وأنساق العلاقات بها، وأيضا تملكه لفهم مفاتيح الخطاب ولغته ودلالاته فى تلك المناطق.
ولكن لماذا ينصاع أفراد المجتمع لسلطة الأمين؟
1- تحل سلطة المؤسسة بالكامل فى جسد وممارسات الأمين، حتى يصبح الفرد ليس جزءا من كل، بل هو تجسيد لهذا الكل، ونوع من حلوله فيه. ولأن تلك البنية/المؤسسة كانت الآمر الناهى فى شأن البلاد، وقراراتها الأمنية والسياسية وحتى الاجتماعية، فهى أصيبت بنزعة إلهية، ترى الشرعية لسيت كإطار محدد لحركتها وممارستها وإنما بالعكس. ولذلك انتشرت حالات القتل خارج القانون، لأن الحاكم الفعلى والمباشر (الضابط والأمين) أعلى من القانون، هو ذلك الشخص الذى يفرضه ولا يُفرض عليه. ومن هنا كان حرص المؤسسة وأفرادها الدائم على استمرار حالة الاستثناء العامة، لأنها بمثابة فرض قانونها على الجميع، وترسيخ شرعنته السياسية والمجتمعية.
2- الخوف من الإيذاء الجسدى والعقاب القانونى. لا يعتبر الإيذاء والانتهاك الجسدى فى عرف الشرطة المصرية أمرا جللا على مدار تاريخها، ويعتبر قطاع كبير من المجتمع الانتهاك الجسدى لبعض الشرائح، بالأخص الأفقر، أمر مطلوب للتقويم والضبط. وفى أحد الحورات مع أمين شرطة كان يتستهجن استهجان بعض الناس للضرب أثناء الاحتجاز أو اقتياد المتهمين للقسم قائلا «يا باشا ما انا لازم ألطشله على وشه قبل ما يدخل القسم علشان يفوق ويعرف هو داخل على إيه، هو داخل الشيراتون يعني». فالسلطة الواسعة الممنوحة للداخلية فى استخدام العنف الجسدى وعدم محاسبتها فى أغلب الحالات أطلق العنان للأمناء فى امتهان كرامة المواطن. وهو ما ولد فى المجتمع خوفا كبيرا من التعرض للإهانة والسحل على أيدى الأمين بالأخص مع وجود قناعة جماعية من الافلات من العقاب القانونى. فى المقابل يعد القانون أداة طيعة فى أيدى الأمناء تمكنهم من تهديد أفراد المجتمع بالأخص أن مصر عاشت تحت وطأة قانون الطوارئ لعقود طويلة. واليوم أيضا تعد الحرب على الارهاب غطاء واسعا للقمع والتنكيل فى أيدى أفراد الداخلية على اختلاف رتبهم. ويندرج جانب كبير من النشاط الاقتصادى فى مصر فى القطاع غير الرسمى ويحتل أكثر من 30% من الناتج العام. أى أن هذه النسبة تقع خارج إطار القانون ولكنها تقع أمام العين والمشاهدة المباشرة. وهو ما يتيح للأمناء التلويح والتهديد الدائم بفرض القانون على تلك الشرائح. وهكذا يتعرض بعض الحرفيين والباعة المتجولين والتجار لكافة المضايقات الأمنية والابتزاز من قبل الضباط وفرض بعض «الإتاوات» من قبل المخبريين والأمناء.
3- الأعتياد على منظومة وعلاقات سلطة قائمة على الفساد والتضامن والتماهى المتبادل بين المجتمع ورموز السلطة به من حيث سرعة وإنجاز المصالح ولو بكثير من الضرر على عاتق الفرد والمجتمع. فهناك علاقات استغلال متداخلة بين أصاحب الحرف ومحلات الطعام والتجار وبين أمناء ومخبرى الداخلية، وأحيانا تنشأ علاقات مودة وعشرة مما يجعلهم يقدمون لهم بعض الخدمات أو السلع والواجبات المجانية أو بأسعار أرخص كثيرا من الأصلية. وفى حقيقة الأمر فإن هذا الفعل ليس قائما على الإكراه طيلة الوقت. إنما هو أقرب ما يكون إلى تضامن اجتماعى لعلمهم المتبادل بالظروف الاقتصادية لأفراد الشرطة. ثم هناك نمط آخر وهو المنفعة المتبادلة بين أفراد الشرطة وأصحاب المحلات وبعض عربات الطعام الثابتة فى العديد من المناطق منذ عقود. فيتم تقديم الوجبات المجانية بشكل يومى فى مقابل خدمات ووساطة دورية فى التراخيص المطلوبة. إلا أن الوجود الثقيل للداخلية بشكلها الرسمى وغير الرسمى وهيمنتها على تفاصيل الحياة اليومية وسيادتها على بقية مؤسسات الدولة دفع بعض الأفراد والحرفيين والتجار ورجال الأعمال التماهى مع/ لاستغلال/الرضوخ لرجال وأفراد الشرطة من خلال تقديم خدمات مختلفة لهم فى مقابل بسط النفوذ ودعمهم لهم فى بعض المواقف إذا تطلب الأمر داخل مناطقهم وأحيانا متجاوزة لحيزهم الجغرافى. وفى حالات كثيرة كان بعض أفراد المجتمع هم السبب فى إفساد الأمين وليس العكس. وطبعا ناهيك عن امتدادهم واختراقهم لمنظومة السلطة من خلال الأمين وتسهيل مصالحهم.
4- الخوف من تعطيل المصالح. جاء على لسان أحد أفراد الأمن «لو معايا ممكن متكسبش بس مش حتخسر جامد... إنما لو ضدى أكيد حتخسر وقت وفلوس ومصالح وحأذيك جامد وححتك (أضعك) فى دماغى».. ومن هنا تولد مصالح مشتركة وعلاقة متبادلة فى الفساد والإفساد مختلطين بالخوف والفزع من سلطة الأمين.
•••
هذه العناصر الأربعة أعطت مساحات لم تكن موجودة قبل عصر مبارك لدور الأمين. ولم يعد مثل المخبر فى عهد عبد الناصر او قبله. فالأمين أصبح لا يتجسس على المجتمع أو ممثل للداخلية والقانون به فقط، ولكنه صار يقوم بعمليات إدارة اجتماعية شاملة فيه: من الاقتصاد إلى الضبط المجتمعى أو إدارة الجريمة. وأصبح يمثل الداخلية بشقيها: المؤسسى واللا مؤسسى حيث تحلل المؤسسة ذوبان الفروق بينها وبين الفرد وبين الفرد والقواعد والقانون. وهو ما جعل الأمين رب لمساحات اجتماعية واسعة فى مصر.
ومع إحساس ووعى الأمناء بمحورية دورهم فى الحكم بشكل عام وليس فقط فى حدود مؤسستهم، نجحوا مع الوقت وتراكم النفوذ فى تكوين شبكات ممتدة بين بعضهم البعض تتجاوز محافظات عملهم وداخل كافة مؤسسات الدولة. وهو ما وفر لهم قدرا كبيرا من التضامن مع بعضهم البعض على مستوى الحقوق، مثلما تجلى فى إضراباتهم المختلفة والتى نجحوا فى لى عنق وذراع الدولة وإخضاعها لمطالبهم، وعلى مستوى الجريمة والتغطية على انتهاكتهم وطغيانهم على المجتمع. ويتم ذلك من نفوذهم على الأقسام ومجرى التحريات وشبكات البلطجة والجريمة إلى هيمنتهم على بعض الهيئات الصحية مثل المشارح وبسط سطوتهم احيانا على التقارير الطبية. ذلك بالإضافة إلى حماية الداخلية كمؤسسة سيادية لهم لوعيها بأهميتهم أولا، ثانيا لاحتقار الداخلية لأغلب قطاعات المجتمع واعتبار انتهاكات حقوق الإنسان والطغيان أمور هامشية فى مقابل السيطرة الأمنية والهيمنة.
إلا أن البنية الاجتماعية تتغير. فحاجز الخوف انكسر. وقطاع واسع من السكان أصبح يرفض الأنصياع علنا وإن لزم الأمر بالعنف ضد الدولة نفسها. وتزداد الصعوبة مع ازدياد ضغط منظمات حقوق الإنسان على الداخلية ومحاولة فرض قدر من الرقابة عليها. فى المقابل لم يعتد كثير من الأمناء العيش بدون فساد وفرض سطوتهم الكاملة. وعلى مدار هذه السنة تحاول المؤسسة الشرطية بشكل عام استرجاع هيمنتها القسوة وأحيانا التنكيل والانتقام. وهو ما ينذر بأن المعركة بين الأمناء وقطاع من المجتمع ستزداد فى الشهور القادمة.