في الرهان على الاستبداد .. صورتان - أيمن الصياد - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 11:58 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

في الرهان على الاستبداد .. صورتان

نشر فى : الأحد 11 أكتوبر 2015 - 7:50 ص | آخر تحديث : الأحد 11 أكتوبر 2015 - 9:52 ص

هذا المقال استكمال لما كنت قد بدأته الأحد الفائت في مقال عنونته «الإرهاب هو الحل»، وفيه محاولة للتذكير بتسلسل الأحداث والتواريخ، وبوقائع صادمة لو تجاهلناها فلن ينجح أبدا ما ندعيه من «حرب على الإرهاب». كما لن تتوقف أبدا قوافل اللاجئين هربًا من الموت .. أو إلى الموت.

لاجئون ألمان - ١٩٤٥ - LIFE Collection
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

لاجئون سوريون - ٢٠١٥ - AP

•••

تأملوا الصورتين جيدا. بينهما سبعة عقود، ولكن المشهد واحد. تعود الصورة الأولى إلى الأربعينيات من القرن الماضي؛ لاجئون أوربيون هاربون من سعير الحرب العالمية الثانية التي أشعلتها الفاشية القومية العسكرية في ألمانيا وإيطاليا. وتعود الصورة الثانية إلى أسابيع مضت؛ لاجئون سوريون هاربون من أوار الحرب السورية. المشهد واحد، وإن اختلفت التفاصيل وتقنية كاميرات التصوير. والقضبان ربما هي أيضا ذاتها، وإن اختلفت المحطات. ولكن المؤكد أن المعاناة ذاتها، والبشر هم البشر. والمحطة النهائية واحدة؛ حيث لا يعرف المسافرون.

•••

«عملية سيزار» opération César هو اسم كتاب صدر بالفرنسية هذا الأسبوع. مؤلفته صحفية تحقيقات فرنسية اسمها Garance Le Casaine . وقيصر هذا هو الاسم المستعار لشاب في العشرينيات من عمره، كان يعمل مصورا في قسم التوثيق في الشرطة العسكرية السورية، قبل أن يهرب إلى أوروبا في يوليو ٢٠١٣. كانت مهمة الشاب السوري تصوير الجثث وأرشفتها. قبل أن يهرب ومعه ما يزيد عن ٤٥ ألف صورة، للتعذيب والانتهاكات التي تحدث في السجون التي كان مع زملائه يتولى أرشفة جثث ضحاياها. وللتأكد من صدقية رواية وصور اللاجئ (الجندي السابق) خضعت الصور على مدى عام كامل لفحص من مختصين بجرائم الحرب وخبراء الطب الشرعي وتحليل الصور، والذين كشفوا لجريدة الجارديان البريطانية ولقناة CNN عما اعتبروه «أدلة مباشرة»  على جرائم ضد الإنسانية قام بها لسنوات مسؤولو النظام، وتتمثل في عمليات التعذيب والتجويع القسري والقتل الممنهج. وحسب أحد المحققين فإن حالة الهزال الشديد الذي بدت عليها جثامين الضحايا ذكرته بالصور التي اشتهرت ومازالت تصدم الضمير الإنساني لضحايا معسكرات الاعتقال النازية. (للاطلاع على التقرير كاملا، هذا هو الرابط)

•••

هل هي معركة بين النظام  والإرهاب؟ أم أن هناك خلف لافتة «الحرب على الإرهاب» كثير  من التفاصيل والتاريخ المضرج بالدماء؟

تذكرنا «صور قيصر» وكتابه، فضلا عن الطائرات الروسية، والتردد الغربي بالسؤال الرئيس: كيف يمكن أن نصف «موضوعيًا» ما يجري (أو جرى) في سوريا، والذي استدعي «واقعيًا» قوى العالم القديم إلى ساحته؟ هل لا يعدو الأمر كله أن يكون معركة بين النظام  والإرهاب؟ أم أن هناك خلف لافتة «الحرب على الإرهاب» التي يلوح بها هذا وذاك كثيرا  من التفاصيل والتاريخ المضرج بالدماء؟

يقول «السرد الزمني» Timeline المجرد للوقائع والأحداث ما يلي:

ــ ١٧ فبراير ٢٠١١: وفي أجواء «الربيع العربي» الذي انتقلت مشاهده عبر الرياح الالكترونية لعالم مفتوحة سماواته إلى شاشات التلفزيون والهاتف المحمول في كل بيت ويد عربية، ومع ما بدا في حينه انتصارا «لكرامة المواطن» أمام قامعيه وجلاديه في تونس ومصر، كان أن انهال رجال شرطة (كعادتهم) بالضرب على ابن لأحد ملاك المحلات في منطقة الحريقة في العاصمة دمشق. مما أثار سخط الناس في السوق فبدأوا بالاحتشاد وبترديد عبارات مثل «الشعب السوري ما بينذل». مما بدا مظاهرة عفوية ضد قمع السلطة الذي كان الناس قد عايشوه واعتادوه لعقود.

ــ النصف الثاني من فبراير: تخوفًا من زيادة الاحتجاجات، ورغبة من النظام في ألا يتكرر ما جرى في تونس ومصر (الأسد قال أن سوريا تختلف) زادت وتيرة القمع «المعتاد»، ولكن ردود الفعل الشعبية لم تكن كالمعتاد، وبدا أن عقودا من الكبت والظلم على وشك أن تنفجر.

ــ مارس ٢٠١١: دوّن أربعة أطفال رسالة «جرافيتي» على جدار في مدينة «درعا» الجنوبية كتبوا فيها شعار الربيع العربي الأثير: «الشعب يريد إسقاط النظام»، اعتقل رجال الأمن الأطفال الأربعة، منكلين كالعادة بأسرهم فتجلت ردة فعل سكان درعا باحتجاجات مطالبة بالإصلاح. وردّ النظام بإطلاق النيران الحية [على المتظاهرين]. وكانت النتيجة أن تحولت كل جنازة إلى مظاهرة. وعمّ الغضب الشعبي جميع أنحاء البلاد. لم تدرك السلطة أن هناك ما تغير، وأن رياح الربيع قد كشفت عن الرغبة الكامنة لدى الشعوب في الحرية والمساواة والكرامة. ومع ازدياد أعداد الضحايا من المتظاهرين العزل في مواجهة النيران الحية لقوات الأمن،  نادى المعارضون (ومعظمهم ليبراليون ويساريون بالمناسبة) بالتدخل الدولي لوضع حد لمجازر النظام، إلا أن نداءاتهم لم تلق آذانا صاغية. فشرع من يستطيع من الناس التسلح لحماية أنفسهم،

ــ ٢٩ يوليو ٢٠١١: تأسس الجيش السوري الحر من ضباط منشقين عن الجيش الرسمي «لحماية المتظاهرين المطالبين بإسقاط النظام» كما قالت بياناتهم حينها. 

ــ اقترب العام من نهايته، ولم تكن الجماعات الإسلامية المتطرفة أو المسلحة قد ظهرت بعد. وإن كان الصدام مع القمع الدموي للنظام على الأرض قد بدا يتخلى واقعيا عن سلميته: «الرصاص مقابل الرصاص» كما قيل وقتها. ثم كان أن أوغلت في الإناء أصابع استخباراتية محلية وإقليمية وربما دولية كثيرة. وفي أجواء محتقنة بالتوتر والدماء، وفي بنية مجتمعية شوهتها الأساليب المعتادة للدولة البوليسية، زاد التوجس والعملاء. وطال العنف والاتهامات بانتهاكات حقوق الإنسان الجميع. وكان طبيعيا أن تتشرذم قوى المعارضة، حتى من كان ينتمي منها لتيار فكري واحد.

ــ نوفمبر ٢٠١١: أي بعد ما يقرب من العام أُعلن عن تأسيس حركة أحرار الشام (السلفية) لتقاتل إلى جانب الجيش السوري الحر.

ــ يناير ٢٠١٢: الإعلان عن تأسيس «جبهة النصرة» التي تنتمي فكريا للسلفية الجهادية، ولتضم سوريين قاتلوا سابقا في العراق وأفغانستان والشيشان. وسرعان ما أصبحت من أبرز قوى المعارضة المسلحة لخبرة رجالها وتمرسهم على القتال، واستعدادهم الأيديولوجي «للاستشهاد». وكان من الطبيعي إلى جانب ما أحدثوه من أثر إيجابي واضح في ميزان القوى العسكرية، أن تنعكس أيضًا أفكارهم «المغلقة» عنفًا وتدميرًا على الأرض.

ــ ديسمبر٢٠١٢: أي بعد ما يقرب من العامين على بداية الثورة ومحاولات إجهاضها، تأسست الجبهة الإسلامية لتضم عددا من التنظيمات والجماعات المعارضة المسلحة.

ــ أبريل ٢٠١٣:، تنضم جبهة النصرة لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق لنصبح أمام الكيان الجديد الأشهر: «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ISIS أو داعش كما اشتهرت في نشرات الأخبار العربية. ولنصبح أمام العنوان الأهم، والتحول الأكثر درامية في الصراع على الأرض وفي المشهد على مسرح المنطقة الواسع.

•••

في القراءة المنصفة لما جرى ما قد يفسر للسيد بوتين «لماذا لم يجد المعارضة المعتدلة في ساحات القتال على الأرض؟»

ماذا نقرأ إذن في تلك التواريخ «المجردة» والحقائق «الجافة»:

١ـ لا يمكنني أن أقطع بصحة ما سمعته مرارا من مثقفين سوريين «يساريين» عن إقدام استخبارات «الدولة» السورية على  إطلاق سراح السجناء المنتمين لتنظيم القاعدة في منتصف ٢٠١١ (رغبة في إرباك المشهد)، ولكنني أعرف كغيري أن الإرهاب هو الذي قدم طوق النجاة إلى أنظمة قمعية بدا أنها كادت تحتضر بعد أن عرتها رياح الربيع العربي. وأعرف كغيري أن الاحتجاجات في سوريا بدأت، كما في غيرها «سلمية». فلم يكن أطفال درعا على سبيل المثال يحملون غير «الطباشير الملون» يكتبون به على الحائط. ثم كان أن جرى في سوريا بالضبط مثل ما جرى في ليبيا. أن استدعى رصاص النظام رصاص معارضيه، وكان من الطبيعي (كما هي طبيعة الحروب المسلحة) أن يحتل الأكثر عنفًا وتسليحا مكان الأكثر سلمية أو اعتدالا) ولعل تلك الحقيقة المنطقية البسيطة تفسر للسيد بوتين «لماذا لم يجد المعارضة المعتدلة في ساحات القتال على الأرض؟»

٢ـ أن النظام السوري لم يوفر وسيلة لتأكيد أنه كما هو لم يتغير. فالرئيس الذي ورث ثلاثة عقود من حكم والده، وبعد ١٤ عاما إضافية في السلطة جرى انتخابه في يونيو ٢٠١٤ لمدة سبع سنوات أخرى بنسبة تقترب من التسعين في المائة (بعد أن ذهب ربع مليون من شعبه إلى المقابر، وأربعة ملايين إلى الملاجئ). والسلطة التي لم تتغير، لم تتردد في استخدام الأسلحة الكيماوية ضد شعبها في الغوطة (أغسطس ٢٠١٣) 

٣ـ على الذين صدقوا أكذوبة «اختزال» ما جرى أو يجري في سوريا على أنه حرب بين النظام والإرهاب، أن يطالعوا اللائحة «الطويلة جدًا» للمعارضين السوريين، والتي تضم أسماء مثل الأكاديمي برهان غليون والحقوقي هيثم مناع والقاضي هيثم المالح والساسة محمد صبرا وهشام مروة ورياض الترك، والناشطين ميشيل كيلو وبسمة قضماني … إلى آخر قائمة طويلة جدا من الاشتراكيين والقوميين والليبراليين والإسلاميين المعارضين لقمع النظام واستبداده. ثم ربما كان عليهم أن يشاهدوا رسوم علي فرزات رسام الكاريكاتير المبدع الذي كسر بلطجية النظام عظامه عقابًا له على رسومه؟

والخلاصة: أنه مع الإقرار بخطر غير مسبوق لإرهاب يحرق الأرض، كما يغسل العقول، علينا أن نقر بأنه من الحمق أن نصدق أن كل معارضي النظام إرهابيون . أو أن مقاومة الإرهاب ستكون عبر إعادة إنتاج الأنظمة «الإرهابية» ذاتها التي أوجدت بيئته الحاضنة، باستبدادها وقمعها وتحيزاتها وفسادها وفشلها فى إدارة التنوع بين مواطنيها تمييزًا وإقصاءً، أيا كان معيارُ التمييز؛ الانتماء إلى حزب سياسي أو طائفة أو قبيلة حاكمة، أو الإنخراط في دوائر «الأوليجاركيا»؛ واسعة كانت أو ضيقة، والتي مركزها دائما «الرئيس».

•••

من الحمق أن نصدق أن كل معارضي النظام إرهابيون . أو أن مقاومة الإرهاب ستكون عبر إعادة إنتاج الأنظمة القمعية ذاتها

وبعد ..

فها هو الأسد (كما غيره) يلوح بفزاعة الإرهاب، وها هو بوتين (كما غيره) يبحث عن سبيل لإنقاذه، بدعوى «الحفاظ على الدولة» أو «الحرب على الإرهاب». وها هو الغرب «قصير النظر» يُستدرَج إلى خطئه «البراجماتي» ذاته؛ دعما لأنظمة الاستبداد أملا في الاستقرار. وها نحن قد نسينا القصة الطويلة لعقود من الاستبداد «ونفي الأخر» قادتنا لما نحن فيه. وها هي صحفية فرنسية تذكرنا بكتاب يحكي قصة ٤٥ ألف صورة من التعذيب والتجويع والقتل وانتهاك الكرامة الإنسانية.

يقولون: رُبَّ صورة واحدة بألف كلمة. فهلّا قرأنا آلاف الصور التي أخرجها المصور السوري من معتقلات النظام؟ وهلًا قرأنا جميعًا (هنا، وعلى الشاطئ الآخر من المتوسط) ما تقوله لنا الصورتان عاليه: باختصار: عندما عرفت أوروبا هتلر وموسوليني، كانت الصورة الأولى. وعندما عرفت منطقتُنا الأسد (وأمثاله)، والبغدادي (وأشباهه)، كانت الصورة الثانية. هل ثمة تشابه بين الصورتين؟

أرحوكم انظروا إلى التفاصيل جيدا. وابحثوا في الألوان والظلال عن الفاشية والاستبداد والقمع والتهميش والتمييز وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة. هكذا شأن كل فاشية؛ دينية كانت أوعسكرية .. واسألوا تاريخ أوروبا قبل أن تنظروا في حاضرنا.  

…………………….

أتفهم أن الأعلام السوداء وسكاكين الإعدام الهمجي المضرجة بالدماء قد تدفع الغرب إلى غض الطرف عن استبداد أنظمتنا بحثا عن «قمع محلي» يتكفل بالأمر، فضلا عن استقرار قد يضمن وقف مراكب وقطارات اللاجئين أو طوابير قوافلهم. ولكن على الذين قد يجدون في غض البصر «خارج الجغرافيا» حلا، أن يمدوا بصرهم في التاريخ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة الكاتب:

twitter: @a_sayyad

Facebook: AymanAlSayyad.Page

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:

ــ الإرهاب هو الحل

ــ العراق .. في القصة تفاصيل أخرى

ــ تقرير فحص الأدلة على التعذيب والقتل في السجون السورية

ــ كتاب: عملية قيصر .. في قلب آلة القمع السورية

ـــ للاطلاع على عينة من الصور التي يتحدث عنها الكتاب 

 

أيمن الصياد  كاتب صحفى
التعليقات