هجان.. تجربة سينمائية تفجر حلم الانتصار للذات - خالد محمود - بوابة الشروق
الأحد 12 مايو 2024 12:38 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هجان.. تجربة سينمائية تفجر حلم الانتصار للذات

نشر فى : الإثنين 11 ديسمبر 2023 - 6:35 م | آخر تحديث : الإثنين 11 ديسمبر 2023 - 6:35 م

عقب مشاهدتي فيلمه الطويل الأول "يوم الدين" بمهرجان كان عام 2018، حيث نافس على جائزة السعفة الذهبية، أيقنت أنني أمام مخرج يملك فكر فنى خاص، عاطفي وعميق من نوع ما، حيث أظهر الفيلم أحد سكان مستعمرة الجذام الذي يصادق طفلًا مهملاً ويشرعان مع حمار في رحلة إلى مدن جنوب مصر بحثًا عن الخلاص والقبول.

بعد خمس سنوات، يعود المخرج أبو بكر شوقي بفيلمه الثاني "هجان"، وهذه المرة في بيئة مختلفة تمامًا ومنغمسًا في الثقافة والأساطير الفولكلور العربي. فمع "هجان" الذي عرض بمهرجان البحر الأحمر السينمائى بدورته الثالثة، يضع شوقي أنظاره على الصحراء العربية، موطن بعض متسابقي الهجن الأكثر مهارة وإصرارًا فى العالم، فى صورة سينمائية مدهشة وحوار يتسرب إلى الوجدان ويجعلك تعيش المغامرة بحس انسانى متفاعلا بكل جوارحك وقد لعبت الموسيقى التصويرية دورا مؤثرا في مسار الأحداث.

في اللحظات الأولى من الفيلم، يصور شوقي، الذي شارك في كتابة الفيلم مع عمر شامة ومفرج المجفل، أنه بالنسبة لهذه الثقافة، يحمل سباق الهجن أهمية أكبر بكثير من مجرد الفوز أو الخسارة. إنها علامة على الشرف والمكانة الاجتماعية والرجولة، وكلها مرتبطة بالقدرة على أن تكون أول من يعبر خط النهاية، وهو إنجاز رائع من شأنه أن يرفع الفائز إلى مستوى البطل المحلي الذي لن تمحى إنجازاته من كتب التاريخ أبدًا.

نحن أمام مطر الذى جسدة باقتدار "عمر العطاوي" فتى شاب نشيط وله علاقة خاصة جدًا مع ناقته التى تدعى "حفيرة" وتعد أكثر من مجرد جمل سباق، فهي صديقته المقربة ورفيقة روحه تتوحد معه وكأنها بشر، عندما يتعرض شقيق مطر لحادث مأساوي حيث يطعنه أحد المتنافسين فى الطريق، يجبر مطر على إعادة النظر في هدف حياته. ينطلق في رحلة محفوفة بالمخاطر للانتقام لمقتل أخيه والحصول على حريته بالفوز.

بعد دخوله عالم سباقات الهجن الذي يبدو ساحرًا ولكنه وحشي بطبيعته وغير عادل في كثير من الأحيان، سرعان ما يصبح مطر فارسًا ويفاجئ الجميع بمهاراته. بعد فترة وجيزة، أصبح جمله حفيرة سلعة رائجة وتم شراؤها من قبل أحد أغنى السكان المحليين "عبدالمحسن النمر" الذي يتوق إلى إضافة الجمل وفارسه إلى فريق السباق الخاص به على أمل التأهل إلى السباق الكبير في البلاد، وهو جمل باهظ الثمن يحظى بمتابعة عالمية. حدث سباق يحصل فيه الفائز على الناموس، وهو أعلى وسام اجتماعي يمكن للمرء أن يأمل فيه. عندما يكتشف مطر في النهاية أن ذلك الرجل الذى يمثل الأنانية والطمع والشر كان وراء وفاة شقيقه، تأخذ الأمور منعطفات أكثر قتامة ويجب على مطر أن يقرر ما إذا كان قادرًا على الانتقام والخلاص وكسب نفسه.

ينبض فيلم "هجان" بالحياة حقًا من خلال مشاهد سباقات الهجن المكثفة، والتي يتم تنفيذها بشكل رائع من خلال التصوير السينمائي الجميل والمونتاج الواعى وموسيقى ملهمة لأمين بوحافة، الذي يقدم هنا واحدة من أكثر الموسيقى التصويرية إثارة للاهتمام لهذا العام متدفقة ورشيقة ومؤثرة بعمق والنتيجة آسرة للغاية لدرجة أنها تعوض فى العديد من لحظات الفيلم الكئيبة والصامتة وغير المثيرة وتعطيه الهزة التي تشتد الحاجة إليها عندما تعود الكاميرا إلى ميدان السباق، مما يسمح لنا مرة للاندماج ليحدث على الشاشة ولمصير مطر.

الفيلم يعرض صحراء السعودية الجميلة وعالم سباقات الهجن الفريد كعنصر ثقافي متكامل، كل مشهد سباق يبعث الحياة لشخصياته من جديد بدراما متفجرة بمشاعرها الإنسانية، وعندما يعود الفيلم إلى الصحراء، فإن سحر الرمال الذهبية والجبال المؤرقة، إلى جانب النتيجة الرائعة، يعيدنا للمشاهدة والبهجة.

"هجان" ينتمي تماما لنوع السينما التى أحبها تلك الأفلام التي تشعرك بالخصوصية أثناء مشاهدتها بواقعيتها وصدام ابطالها بين الخير والشر والمعاناة التى تولد الحلم لدى المستضعفين.

نقطة حيوية مهمة صاغها السيناريو لمأزق الصغار الذين يعيشون مع نظم قاسية وحياة تتطلب الكفاح من الحياة وإثبات الوجود وكيف أن القدر يمكنه أن يقف بجوارك مثلما عاندك وقسى عليك.

إنه فيلم رائع نجح في الجمع بين الرياضة المثيرة والإرث العائلي والانتقام في صورة مميزة ومزهلة وإيقاع محكم ومليء بالإثارة يترك مجالًا للجمهور للتنفس.

اجتمع كل عنصر تقني معًا ليخدم القصة في النهاية بحالة درامية سلسة دون تحذلق أو سخف، راسخة في الماضي الثقافي والحاضر والمستقبل. بعد خروجي من هذا الفيلم شعرت فجأة بالانتقال إلى صباى وكم كان يجب أن أتمسك بالحلم والهدف وأن أوقن بوجود الخير مقابل الشر، والشجاعة أمام الجبن، وأن النزاهة والشرف واجبنا تجاه أنفسنا والآخرين.

تمسك هجان بإيقاعات سردية مألوفة دون أن يكون زائدًا عن الحاجة، وقدم نسخته الخاصة من القصة التي سمعناها جميعًا مرارًا وتكرارًا طوال حياتنا؛ لأن هذه قصة تستحق التكرار.
نعم يسلط هجان الضوء على الجوانب الخالدة للتجربة الإنسانية: الحزن، والعاطفة، والتقاليد، وسرد القصص، ورفضنا العنيد للاستسلام، والانتصار - وأيضًا تكلفة النصر.

الفيلم بالطبع كلاسيكي فى سرده لكنه بمثابة نسمة من الهواء المنعش لتحقيق الذات بمساره الخاص، خارج تلك الضغوط التي تسيطر على صناعة السينما. تركيزه القوي على سرد قصة مطر، وروايتها بشكل جيد، يضفي على الفيلم روحًا وإصرارًا حقيقيين، ويرفعه إلى مستوى الملحمة الجميلة المترامية الأطراف.. مبهرة، ومؤثرة، نعم بكيت فى مقعدى فى بعض اللحظات، نعم أحب الفيلم الذي يجعلني أدمع لكنه يتيح لك الاحتفاظ بنهاية سعيدة.

وأخيرا، كان أداء بطلنا الصغير عمر مطار مدهشا بانفعالاته وصمته والتعبير بعينه التى تعكس كل وجوه الحياة وأتوقع له مستقبل باهر، وكذلك عبدالمحسن النمر الذي جسد الطمع باقتدار.

خالد محمود كاتب صحفي وناقد سينمائي
التعليقات