فنان ثائر من وهران - داليا شمس - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 10:43 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فنان ثائر من وهران

نشر فى : السبت 12 نوفمبر 2022 - 8:50 م | آخر تحديث : السبت 12 نوفمبر 2022 - 8:50 م

ضخم متهور وصغير عصبى، هكذا تخيل جمال سى العربى، رسام الكاريكاتير والقصص المصورة الجزائرى، بطلى مغامرات القطب الجنوبى ــ بطريق وعم نورس ــ التى نُشِرت فى مجلة «علاء الدين» فى النصف الثانى من تسعينيات القرن الفائت، حين أتى للاستقرار فى القاهرة هربا من الإسلاميين.
أراد محمد شناوى، أحد تلامذته ومؤسس مجلة «توك توك» الهزلية المصورة ومنظم فاعليات مهرجان «كايروكومكس» (من 10 إلى 13 نوفمبر فى متحف مختار)، أن يُذكر الجمهور بأبيه الروحى، جمال سى العربى الذى تُوفى بشكل مفاجئ عام 2007، فجعله شخصية العام وخصص معرضا لتوثيق تجربته وذلك من خلال إعادة عرض بعض لوحات «بطريق وعم نورس». وتصادف أن الشخصيتين المحتفى بهما أثناء المهرجان تنتميان لكائنات القطب الجنوبى المهدد بيئيا بسبب التغير المناخى، فنرى مثلا فى إحدى اللوحات البطريق وقد طلب اللجوء السياسى إلى حديقة الحيوان بالجيزة، هربا من ظروف الجو القاسية فى موطنه الأصلى.
•••
كان سى العربى المعروف باسم «بُرجى» بتعطيش الجيم يتمتع بنظرة ثاقبة، فهو مناضل محنك انخرط فى السياسة مبكرا، وكانت لخلفيته الماركسية أثر كبير فى تكوينه، وإن حملت أعماله الفنية رؤية إنسانية أشمل وأرحب مع الوقت. وصل إلى القاهرة عام 1994 بعد اغتيال أصدقائه المقربين على يد الجماعات المسلحة فى الجزائر خلال العشرية السوداء، خاصة صهره عبدالقادر علولة، الكاتب والمخرج المسرحى (1939ــ1994)، وكان قد سبقه إلى المصير نفسه صديق آخر وهو محمد جِليد، الشاعر والباحث فى شئون المسرح وعلم الاجتماع.
اندمج سريعا «بُرجى» فى الحياة الثقافية المصرية، وصار بيته ملتقى للعديد من الكُتاب والفنانين والباحثين المنتمين لأجيال مختلفة. توطدت علاقته بتشكيليين كبار أمثال محيى الدين اللباد وحجازى وجميل شفيق وعبدالهادى الوشاحى والفرنسى جولو، وبباحثين متميزين كنبيل عبدالفتاح والراحل سامر سليمان، وكتاب مثل جمال الغيطانى وزوجته ماجدة الجندى التى عمل معها فى مجلة «علاء الدين». يرسم فيها أسبوعيا ويكتب نصوصه بالمصرية الدارجة، بسخرية أهل البلد وحس الثائر الجزائرى الذى ورث عن أبيه محاربة الأشكال المختلفة للاحتلال والجهل والخرافات، فصار على ما صار عليه.
•••
انتقل من شقة إلى أخرى بالقاهرة، وفى كل مرة تنتقل معه الأحاديث والسهرات الشيقة حول التاريخ والسياسة والأدب والفن، فنغوص فى ثقافة الجزائر التى حملها فى ثنايا قلبه: سياسات التعريب بها، أثر الحركات الإصلاحية فى الوطن العربى، «مسرح الحلقة» الذى دعى إليه عبدالقادر علولة بدلا من الشكل الأرسطى للخشبة، حياتهما معا فى مدينة وهران، وقد عمل بها هذا الأخير كمدير للمسرح الجهوى فى السبعينيات. تتشعب الحوارات، وفى كل مرة نتعرف على جزء صغير من حياته السابقة فى وهران حيث ولد عام 1956. وهى الطريقة نفسها التى اختار شناوى أن يُعرف الناس به من خلال المعرض، فجاءت حياته أيضا على شكل شذرات مرسومة على الحائط، مثلما يفعل الفنان فى لوحات القصص المصورة، حين يضع كلام الشخصيات داخل دوائر أو فقاعات.
درس «بُرجى» الطب فى البداية بناءً على رغبة أهله، ثم تركه لدراسة التاريخ، ومن بعده تحول إلى دراسة الأدب الفرنسى. عمل بعدها لفترة كمدرس ثانوى، قبل أن يتفرغ للصحافة والرسم، وهو الذى لم يتلق دراسة أكاديمية فنية، بل علم نفسه بنفسه، وتأثر كثيرا بالمدرسة الأوروبية خاصة الفرانكوبلجيكية، وروادها: إرجيه وفرانكان وهوجو برات. التحق بصحف مختلفة مثل الجريدة السياسية الساخرة «الصح آفة»، ثم المطبوعة الأسبوعية «المُحقق» (Détective)، ومن بعدها «لو سوار دالجيرى» (Le soir d’Algérie). ورغم كون اسمه على قائمة الاغتيالات التى أعدتها جماعات الإسلام السياسى إلا أنه لم يخش قط التعبير عن مواقفه بصلابة ووضوح، أو المسارعة لغوث من استنجد به خلال إقامته فى مصر، إذ كان دوما منزله مفتوحا للجميع، يستقبل ضيوفه بصحبة زوجته السيدة بشرى شيبوب، ويتباريان فى طبخ كل ما لذ وطاب، فبيتهما كان عامرا بحب الحياة.
•••
يرقص جمال ويغنى بجسمه الضخم وصوته الأجش مثل أنتونى كوين فى فيلم «زوربا اليونانى»، وكأنه خرج للتو من قصة أسطورية تشبه مدينته الساحلية وهران، شمال غرب البلاد. يشرح من وقت لآخر الفروقات المختلفة بين أنماط الموسيقى والغناء الجزائرى: الشعبى الذى يميز العاصمة، والمألوف المنتشر أكثر فى قسطنطينة، والغرناطى فى تلمسان، والراى الذى تطور وانطلق إلى العالم من وهران، تلك المدينة التى حكمها العرب والأتراك العثمانيون واحتلها الإسبان والفرنسيون.
تنطلق أغنيات الشيخة رميتى بكلماتها عن النضال اليومى للفقراء وحب اللذات، والشاب عبده الذى اشتهر بتقليده لتراث المداحات، والشاب خالد بصوته الجهورى، فيحكى «بُرجى» عن بداياته.
يحدث هذا بشكل تلقائى على أنغام الموسيقى ويتمكن الحضور من متابعة الفارق بين نوع وآخر، فى جو من المرح. روح تشبه تلك التى تتلبسه حين ينتهى من إحدى رسوماته ويخرج إلى غرفة المعيشة منتشيا، وهو يصفر لحنا خفيفا.
•••
اتسعت شبكة علاقاته بسبب عمله أيضا بجريدة الأهرام إبدو، الناطقة بالفرنسية، والتى كان ضمن مؤسسيها، إذ كتب بالصفحات الثقافية وساهم بترجمات رفيعة لنصوص أدبية لكبار المؤلفين العرب إلى الفرنسية، وازدادت معارفه وصداقاته، فقد كان يتواصل فى كثير من الأحيان مع الكُتاب خلال إنجازه الترجمة للتأكد من هذا المعنى أو ذاك، وغالبا ما تكون بداية علاقة استثنائية جديدة.
ترجم يحيى حقى ولطيفة الزيات ويوسف إدريس ونجيب محفوظ وبهاء طاهر وإدوارد الخراط وكثيرين غيرهم، كما كان يقترح نصوصا اكتشفها مصادفة لشباب واعد، هذا بالإضافة إلى ابتكاره لشخصية «بيبا» الكرتونية المستوحاة من بنت أخته فى طفولتها، والتى عبر من خلالها عن آرائه حول الهيمنة الأمريكية والحرب على العراق أو ما يدور فى فلسطين وغيرها من الأحداث الجارية، فكانت لسان حاله حتى رحيله.
نشر أيضا بالتعاون مع جهات مختلفة مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمة «الحوت الأبيض» عددا من الكتب وألبومات الأطفال التى امتزجت فيها الحكايات بمبادئ حقوق الإنسان والسلام والعدل. وأصدر فى جزأين قصة مصورة بعنوان «على الزيبق»، حاول فيها تصحيح التاريخ الذى كتبه المنتصرون، من خلال الشخصية الشعبية الشهيرة، التى مزجها بملامح شاب كان يقدم الطلبات بمطعم «الشبراوى» للفول والفلافل. على هذا النحو، كانت مسيرة جمال سى العربى، صاخبة، مليئة بالأحداث، وكأنه استبق نهايتها، فقد كان يردد باستمرار متهكما: «هذه الحياة، لا أحد يخرج منها حيا».

التعليقات