بنات ألفة يقفز بالسينما الوثائقية إلى عالم جديد - خالد محمود - بوابة الشروق
الأحد 12 مايو 2024 2:05 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بنات ألفة يقفز بالسينما الوثائقية إلى عالم جديد

نشر فى : الثلاثاء 12 ديسمبر 2023 - 8:25 م | آخر تحديث : الثلاثاء 12 ديسمبر 2023 - 8:25 م

يجىء فيلم «بنات ألفة» للمخرجة التونيسية كوثر بن هنية والذى عرض على شاشة مهرجان البحر الاحمر السينمائى، ليكشف عن رؤى جديدة لشكل السينما الوثائقية التى تتناول تداعيات قضايا التطرف سياسيا واجتماعيا، حيث حمل رغم موضوعه الجاد دفئا وتعاطفا إنسانيا نافذ الروح والمشاعر، فالشخصيات يضحكن ويبكين فى آن واحد خلال النقاش والحوار، وكأنها الحياة بتعدد فصولها تجتمع بمشهد واحد.
نحن هنا أمام القصة الحقيقية التى شغلت وسائل الاعلام لسنوات لامرأة تدعى «ألفة الحمرونى» وبناتها الأربع «آية»، و«تيسير»، و«رحمة»، و«غفران»، والتى طرحت بسيناريو يقدمها بطريقة فريدة ومؤثرة وممتعة فنيا فكريا، فـ«ألفة» امرأة عصامية تتولى رعاية بناتها؛ وتنقلب حياتها رأسا على عقب حينما تختفى ابنتاها الكبيرتان «رحمة» و«غفران»، واللتان اختطفهما الذئب الإرهابى «داعش» بليبيا فى ظروف غامضة، وكأنه نداهة، لتقعا فى مستنقع التطرف وينتهى بهما المطاف إلى السجن.
أصبحت الأجواء العائلية كارثية.. غابت الضحكات واللعب البرىء وأصبح الهم الشاغل للأم كيف تستطيع تخليص بناتها من أنياب التطرف، وإعادة الألفة إلى عائلتها، فكانت تتحدث بصوت عال عبر المحطات الفضائية وكانت صرخاتها أشبه بناقوس الخطر الذى يهدد جيل الشباب الباحث عن مخرج لأزمة بلاده السياسية.
تقرر «كوثر بن هنية» المخرجة وكاتبة السيناريو مساعدة «ألفة»، وذلك من خلال تجربة فنية فريدة تعيد فيها تجسيد الحكاية، وتروى تفاصيل ما حدث للاسرة بالضبط، والذى لم يتم الكشف عنه إلا فى الفيلم؛ وتؤسس نظاما سينمائيا استثنائيا من أجل رفع الحجاب عن قصة «ألفة وبناتها»، وبدلا من مجرد التحدث مع العائلة عن الأحداث التى أدت إلى الاختفاء، واستدعت أيضا ممثلات محترفات لتجسيد بعض الأحداث الدرامية.
سارت المخرجة فى اتجاه جديد، تمزج بين المقابلات الوثائقية التقليدية والمحادثات الحية لأبطال الحكاية والتى تلعب دورها «ألفة» وابنتاها الأصغر سنا مع مشاهد معاد تمثيلها من حياة الأسرة، تقدمها الممثلتان نور قروى وإشراق مطر، اللتان تلعبان دور «رحمة» و«غفران»، وهند صبرى التى تجسد شخصية «ألفة» عندما تكون المشاهد مزعجة وقاسية للغاية للأم الحقيقية، لندخل إلى عمل فنى آسر تماما يقفز بالأفلام الوثائقية إلى مستوى جديد فى الطرح؛ يركز على معنى الأسرة والأنوثة والعار والتطرف. «ألفة» تبدو أما قاسية مع بناتها، فقط لأنها مرت بنفس الشىء قبل أن تنجب أطفالها، دافعت عن نفسها فى مواجهة الرجال الظالمين، ونرى مدى صعوبة الحياة التى عاشتها، لكنها استمرت فى الوقوف شامخة، كما بدا فى مشهد اعاد تمثيل ليلة زفافها القاسية أمام عينيها ومثل فيه الممثل مجد مستورة دور زوجها، حيث وقفت تراقب المشهد وتسترجع الذكريات.
قد يكون من المدهش للغاية أن تمر أمامك لحظات مختلفة من حياتك بصدماتها الهائلة، حيث تروى الأختان «آية» و«تيسير»، الليالى التى كان فيها والدهما يعود إلى المنزل وهو فى حالة سكر، ويبدأ فى إزعاجهن جميعا، ومرة اخرى بدأت «ألفة» فى رؤية شخص (يلعب دوره مستورة أيضا) وهو يعتدى جنسيا على بناتها، وفى أحد المشاهد الصعبة، يقول «مستورة» إنه لا يستطيع مواصلة المشهد بسبب طبيعته الوحشية وغير المريحة، فيما ترى المخرجة إنه ممثل ويجب أن يعلم أنه مجرد مشهد فى فيلم، ولكن على مستوى أعمق، فهو بمثابة وسيلة للفتيات للانتقال من هذا الفصل المظلم فى حياتهن وتجاوزه.
الواقع ان هناك دائما معضلة أخلاقية فى الأفلام الوثائقية عندما يتعلق الأمر يجعل شخوصها تعيش الصدمات مرة اخرى، وهذا هو الجانب الأكثر صعوبة فى هذا الفيلم، عندما ترى «ألفة» وبناتها الأصغر سنا «قروى» و«مطر» فى دور «رحمة» و«غفران» المختفيتان تغمرهما الفرحة باحتمالية تصوير الفيلم وكأن الجميع بخير، لكن بعد لحظات، يسيطر عليهن الحزن الشديد عندما يتذكرن ما حدث قبل سنوات عند هذه النقطة، من المهم الكشف عن أن «رحمة» و«غفران»، المراهقتين فى ذلك الوقت، تركتا عائلتهما للانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية فى ليبيا، وكان هناك قلق من انضمام أخواتهن الأصغر سنا أو احتمال تعرضهن للاختطاف، مما دفعهن فيما بعد إلى البقاء فى مركز للأحداث لحمايتهن.
من الصعب مشاهدة الفيلم ورؤيتهن يسترجعن لحظات محورية، مثل عندما بدأت «رحمة» و«غفران» فى ارتداء الحجاب أو النقاب أو كيف كانتا تتصرفان، من القسوة رؤيتهم وهم يعانون فى مشاهد معينة، وأحيانا يقولون إنهم لا يستطيعون النظر إلى من يمثل لأنه يذكرهم كثيرا باحداث جسام.
هناك سؤال رئيسى يأتى من مشاهدة «بنات ألفة».. لماذا قررت بن هنية أن تصنع الفيلم بصيغته الفريدة؟.. نعم كان من الممكن أن يكون وسيلة لمساعدة هذه العائلة على الشفاء والانتقال من الفصول المظلمة بالحكى، لكن الفيلم ربما جعلهن يشعرن بالكثير من الألم والتسبب لهن باضطراب عاطفى، كما رأينا فى مشاهد عديدة.
صورت المخرجة حالات التناقض والفوضى بين الخير والعنف الذى لا يمكن تفسيره، ومشاهد إعادة البناء الخيالية لإفساح المجال لذكريات عائلية ومقابلات أمام الكاميرا حيث تتبادل هؤلاء النساء ذكرياتهن وانطباعاتهن هو ما يجعل هذا الفيلم الوثائقى محببا وفريدا من نوعه.
فى النهاية «بنات ألفة» الذى حصل على جائزة الشرق لأفضل فيلم وثائقى بمسابقة روائع عربية بمهرجان البحر الأحمر من أفضل الأفلام الوثائقية، تحافظ بن هنية على صدقها طوال فيلمها، سواء كانت المشاهد مكتوبة أو غير مكتوبة، هو فيلم لا يشبه أى شىء اعتدت رؤيته، فهو يثير مزيجا جديدا تماما من المشاعر والمعلومات، ويمزج بين التقاليد والتحرر، ويستدعى تاريخ البلد والعلاقة الحميمة بين الأسرة.
وقد خلق نقاشا مفتوحا حول الإرهاب وبقاياه وعن خلاياه النائمة، والأسلوب الدرامى الوثائقى الذى دعم بكل تأكيد قصة الفيلم وكيف استطاعت المخرجة أن تمزج الواقع بالخيال عبر قصة داخل قصة عرضتها المخرجة بن هنية وكشفت معاناة الأم مع الإرهاب واستطاعت أن تشرك المشاهد بخوض تجربتها التى باتت تهدد جيلا بأكمله، وبات حاجز الكاميرا مختفيا بين المتلقى ومخرجة الفيلم وأصبحنا نعيش فى خندق واحد والعمل مع الأم لتخليص فلذات أكبادها من خطر التطرف.

خالد محمود كاتب صحفي وناقد سينمائي
التعليقات