دروس صائد السمك الصينى - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 8:21 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دروس صائد السمك الصينى

نشر فى : الأحد 13 فبراير 2022 - 8:15 م | آخر تحديث : الأحد 13 فبراير 2022 - 11:15 م
تعددت الزيارات على أعلى المستويات فى الأسابيع الأخيرة بين كبار المسئولين فى مصر وعدد من دول شرق آسيا، فقد ذهب الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى بكين لحضور افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية فى ٤ فبراير، وسبق ذلك زيارة رئيس جمهورية كوريا إلى القاهرة فى ١٩ و٢٠ يناير من هذا العام، وجرى الحديث فى هذه اللقاءات، كما كان الحال فى زيارات سابقة، عن ترحيب الحكومة المصرية بالاستثمارات من هذه الدول، واستعداد الحكومة المصرية لتسهيل نشاط شركاتها. ولا شك أن هناك علاقات اقتصادية وثيقة بين مصر ودول شرق آسيا عموما وفى مقدمتها كل من الصين وكوريا الجنوبية، وبكل تأكيد هذه الاستثمارات مهمة للاقتصاد المصرى، الذى يعانى مما يسميه الاقتصاديون والاقتصاديات من فجوة الموارد المطلوبة لدفع التنمية، فنحن لا ندخر ما يكفى لتوليد الاستثمار، ولذلك تنشأ حاجتنا لاجتذاب موارد خارجية لتعويض هذه الفجوة، ولا تفوت على حكومتنا فرصة مناسبة إلا واستغلتها فى دعوة الشركات الأجنبية والمؤسسات المالية الإقليمية والدولية للمساهمة فى تعويض هذا النقص، سواء بالاستثمار أو تقديم القروض. ولما كانت دول شرق آسيا قد انتقلت من مرحلة الحاجة لاستقطاب رءوس أموال أجنبية لدفع نموها، بل وكانت خصوصا فى حالة كل من الصين وكوريا تعولان بصفة أساسية على مدخراتها المحلية لتمويل تنميتها، وأصبحت من كبار المستثمرين وامتد نشاط شركاتها إلى كافة بقاع العالم، وخصوصا فى الدول المتقدمة، فمما يسعد حكومتنا أن تحظى مصر بقسط من هذه الاستثمارات ونشاط شركاتها.
ومع ذلك فقد تساءلت عن معرفة بتجارب التنمية فى هذه الدول، ما إذا كان استقدام استثماراتها هو أفضل ما يمكن أن تقدمه لنا، ودار فى ذهنى مثل صينى شائع، وهو نصيحة أرى أنها مفيدة لنا، ويذهب هذا المثل إلى أن أفضل ما يقدمه صائد السمك لمن يطلب منه الطعام، هو ليس بأن يقدم له سمكا، ولكن أن يعلمه كيف يصطاد. ولذلك فخير ما يمكن أن نحصل عليه من دول شرق آسيا، ليس هو طلب استثماراتها ودخول شركاتها إلى سوقنا المصرية، وهو ما لا أعترض عليه، ولكن هو أن نتعلم من تجربتها التنموية كيف استطاعت فى غضون عقود قصيرة أن تنتقل من مجتمعات يعمها الفقر إلى مجتمعات تشارك شركاتها فى سباق الفضاء بتقديم أجهزة حساب الوقت الدقيقة وهو ما تفعله شركة سامسونج الكورية فى برنامج سباق الفضاء الأمريكى، أو إلى أن تخشى الولايات المتحدة من اعتماد الدول الأوروبية على أنظمة الاتصالات التى تفوقت فيها شركاتها مثل القصة الشهيرة للعلاقات المعقدة بين الإدارة الأمريكية وشركة هواوى الصينية، والتى وصلت إلى حث الحكومة الكندية على اعتقال منغ وانزو مديرتها المالية وابنة صاحبها عندما تواجدت هناك. فى سنوات الستينيات من القرن الماضى كانت القارة الآسيوية توصف بأنها قارة المأساة بحسب عنوان الكتاب الشهير للاقتصادى السويدى جونار ميردال، ولكن الباحث عن كتب عن القارة الآسيوية فى القرن الحادى والعشرين سوف تطالعه عناوين عن المعجزة الآسيوية، كما سيجد القارئ أو القارئة لدورية السياسة الخارجية الأمريكية نقاشا محتدما بين خبراء العلاقات الدولية الأمريكيين حول كيفية مواجهة بلادهم لتحدى الصعود الصينى، هل بالاحتواء كما فعلت مع الاتحاد السوفيتى خلال سنوات الحرب الباردة أم بتعميق الانخراط معها كما كانت سياسة الولايات المتحدة إزاءها منذ بداية سبعينيات القرن الماضى. فما هى إذا تلك الدروس التى يمكن لصائد السمك الصينى أن يقدمها للشابة أو الشاب الراغب فى التعلم فى مصر.

ميراث الماضى
سوف يقول الصائد الصينى إن إصلاحات الماضى تمهد الطريق للانطلاق فى الحاضر والمستقبل. الإصلاح الزراعى الذى أدخلته الولايات المتحدة فى كوريا الجنوبية فى بداية خمسينيات القرن الماضى ونزل بالحد الأقصى لملكية الأراضى هناك إلى ما لا يتجاوز ثلاثة هكتارات أو خمسة فدادين وحظر بيع الأراضى دفع من لديه فائض من المال إلى التوجه للقطاع الحضرى للاستثمار فيه، كما أن التغيرات الراديكالية فى نمط ملكية الأراضى فى الصين أثناء ثورتها التى قادها الحزب الشيوعى هى التى مكنت صغار الفلاحين فيها من الاستفادة من الإصلاحات التى وفرت لهم حرية اختيار ما يزرعون وحرية تسويقه بدلا من أن يقتنصها كبار الملاك أو التجار الوسطاء. وسوف يسخر الصائد الصينى من هؤلاء المصريين الذين ينتقدون الإصلاح الزراعى الذى أدخله عبدالناصر خلال السنوات التى حكم فيها مصر، ويذكرهم بأن الولايات المتحدة، زعيمة العالم الرأسمالى كانت هى التى تقود الحملة للإصلاح الزراعى فى أمريكا اللاتينية فى ظل إدارة جون كينيدى ورئاسة وزير دفاعه السابق روبرت مكنمارا للبنك الدولى فى أواخر ستينيات القرن الماضى. ولا ينكر قادة الحزب الشيوعى الصينى الأثر البالغ للتحولات الثورية التى أقدم عليها ماو تسى تونج زعيم ثورتهم، والتى سهلت لهم الانتقال لمرحلة اقتصادية أكثر تقدما.

مفهوم التنمية
الدرس الثانى الذى شدد عليه الصائد الصينى هو جوهر التنمية. القيادات الآسيوية قيادات جادة تعرف أوضاع بلادها وأوضاع العالم، ومن ثم تهتدى لتحديد الأولويات الصحيحة. كانت تدرك أن الطريق للتخلص من الفقر ومن الاعتماد على الدول الأخرى، بل وتحسين دفاعها ونهوضها فى المجال الدولى هو عن طريق التنمية الاقتصادية وقاطرتها هى الصناعة وأدواتها هى أيد عاملة متعلمة، وأن المصدر الأساسى لتمويل التنمية هو من خلال المدخرات المحلية، وأن الموارد الخارجية إن جاءت فهى مكملة للموارد المحلية. وقد استفادت من تراثها الثقافى الذى يعلى من شأن العلم، ولا يتورع عن السعى إليه أيا كان مصدره، ولم يكن هناك هدف آخر يبعدها عن التركيز على التنمية الاقتصادية. كان الوضع صعبا فى كوريا الجنوبية فهى تفتقد للمواد الأولية ومصادر الطاقة، ولكنها استطاعت بتوظيف قواها العاملة الماهرة أن تحول هذا القيد إلى ميزة من خلال الاعتماد على مستوى الإنتاجية المتفوق حتى مع استيراد مستلزمات الإنتاج. وكان الوضع أفضل نسبيا فى الصين بمساحتها الشاسعة وتنوع مواردها الأولية، ولكن كان مستوى التعليم ومهارات العاملين فى البلدين هو الذى ساهم فى رفع معدلات النمو التى بلغت حدودا غير مسبوقة فى أى من أقاليم العالم الأخرى، وتجاوز فى البلدين فى سنوات كثيرة أكثر من ١٠٪ سنويا. وكان التطلع إلى مكانة الدولة العظمى واضحا فى غايات التنمية فى الصين التى جمعت فى رؤية صحيحة أسس بناء دولة قوية وهى تحديث الصناعة والزراعة والعلم والدفاع. وكانت كل خطة للتنمية تبنى على ما تحقق فى خطة قبلها، فانتقلت كوريا الجنوبية من صناعة المنسوجات والأحذية إلى الصناعات الكيماوية ثم الصناعات الثقيلة وبناء السفن حتى أصبحت من كبار منتجى الصلب والسفن فى العالم، ثم إلى الصناعات الإلكترونية، وسارت الصين على قدمين كما كان يقول زعيم ثورتها ماو تسى تونج بتحديث كل من الزراعة والصناعة فحققت الاكتفاء الذاتى وانطلقت إلى التصدير، ومهد ذلك لها أن تطرق وتتفوق فى أرفع مستويات الصناعة المتقدمة، بل أن تتطلع إلى الانتقال من الصناعات كثيفة العمالة إلى الصناعات كثيفة رأس المال.
هذا الفهم الصحيح لجوهر عملية التنمية هو الذى مكّن البلدين من أن يقضيا على الفقر، وأن يرفعا من مستويات تعليم المواطنين والمواطنات، وأن يصبحا أطرافا أساسية فى الاقتصاد العالمى، فتنضم كوريا الجنوبية إلى نادى الدول الغنية فى منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية، وأن تصبح الصين ثانى اقتصاد فى العالم.

سياسات التنمية يصوغها الخبراء
النصيحة الثالثة هى أن تكون مهمة صياغة سياسات التنمية للخبراء المتخصصين فى هذا المجال. بطبيعة الحال قيادة الدولة تضع التوجهات العريضة، ولكن ابتكار السياسات وصياغتها هى من مهمة أجهزة قوية تضم أفضل الخبرات فى مجالات الاقتصاد المختلفة. اضطلع بهذه المهمة لجنة الدولة للتخطيط فى الصين والتى تغير اسمها فى أواخر الثمانينيات إلى لجنة الدولة لتخطيط التنمية ثم أصبح بعد ذلك هو لجنة تخطيط التنمية القومية، وتولى هذه المهمة فى كوريا الجنوبية معهد كوريا للتخطيط. ومن هذه المؤسسات خرجت اقتراحات السياسات المبتكرة التى تجمع بين التخطيط وآلية السوق، أو الانتقال بالتخطيط من التخطيط المركزى الإلزامى إلى التخطيط التأشيرى ثم صياغة توجهات عامة تسترشد بها المؤسسات الإنتاجية والخدمية.

دور الدولة
والنصيحة الرابعة هى بحضور الدولة فى عملية الانتقال الاقتصادى هذه، فمع تقدير قيادات الدولة للخبرة المتخصصة لأجهزة التخطيط، ومعرفة قيادات المؤسسات الإنتاجية والخدمية بظروف عملهم، إلا أن قيادات الدولة فى البلدين كانت تضع أهدافا كمية للقطاعات الإنتاجية والخدمية، وكانت تتابع وفاءها بهذه الأهداف، وفى حالة كوريا الجنوبية كان الجنرال بارك رئيس كوريا الجنوبية ١٩٦٢ــ١٩٧٩ يعقد مؤتمرا شهريا يحضره قادة المؤسسات الاقتصادية الكبرى يحاسبهم فيه على مدى تحقيقهم لأهداف الخطط من حيث معدلات زيادة الإنتاج والتصدير. كانت مؤسسات الحزب الشيوعى هى التى تقوم بهذه المهمة فى الصين، وكان المقابل للوفاء بأهداف الخطة فى البلدين هو الحصول على قروض سخية من البنوك التى تملكها الدولة، وكانت العقوبة هى الحرمان من هذه القروض والتسهيلات الأخرى التى تقدمها الحكومة. وإلى جانب ذلك كانت مؤسسات الدولة فى كل من الدولتين تتحالف مع مؤسسات إنتاجية فى القطاعين العام والخاص لتنفيذ أهداف الخطة فى مجالات محددة، وبالتالى لم يكن تنفيذ أهداف الخطة يترك لقيادات المؤسسات الإنتاجية والخدمية، ولكن مؤسسات الدولة كانت حاضرة من خلال هذه التحالفات فى متابعة وتيسير بلوغ هذه الأهداف وتذليل العقبات التى قد تعترضها.
هذه هى بعض دروس الصياد الصينى، والذى لم يغفل عن التذكير ببعض الصعوبات، ولكنه أرجأ الحديث عنها لمناسبة قادمة.
مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات