أحداث أسوان والتكامل الوطنى - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
الأربعاء 4 ديسمبر 2024 8:57 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أحداث أسوان والتكامل الوطنى

نشر فى : الأحد 13 أبريل 2014 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأحد 13 أبريل 2014 - 8:00 ص

فى واحدة من المدن الأوروبية المحايدة، فى الثانى من شهر أبريل الجارى، وفى مناقشة عامة حول التحديات التى تواجه مصر ما بعد الثورة، وجَه واحد من الحضور، هو من مواطنى إحدى بلدان شرقى أفريقيا، سؤالا إلى واحد من المتحدثين الرئيسيين الثلاثة. ابن قارتنا قال إنه فى ليبيا وسوريا، ومن قبلهما فى العراق، نتج عن عملية التغيير السياسى تناحر واحتراب أهلى وتفكك، ولكن ذلك لم يحدث فى مصر، فما تفسيرك لذلك؟ أجاب المتحدث، بغير قليل من الفخر كتمه المواطن المصرى ليحفظ للمحلل موضوعيته، أن التفسير يكمن فى التجانس والتكامل الوطنى المصرى. منذ آلاف السنين يعيش أهل مصر فى واد يجمع بينهم نهر النيل؛ إدارة النهر فرضت وجود سلطة مركزية وحدتهم.

صحيح أن هذه السلطة كانت تحكم قبضتها حينا وتنبسط هذه القبضة أحيانا أخرى، ولكن ذلك لم يضع وحدة الوجهين القبلى والبحرى موضع المساءلة أبدا. لم يكتفِ المتحدث بذلك، بل أضاف إن محمد على، فى سعيه لبناء مصر الحديثة، وبممارسات عنيفة لابد أن تدان بمعايير عالمنا الحالى، قد حارب القبائل فى أطراف الإقليم المصرى ونزع عنها قوتها ونفوذها وتأثيرها السياسى، وهو ما جعل ممكنا إقامة أبنية الدولة الوطنية فى مصر فى خلال القرن التاسع عشر. لذلك لم تنافس الدولة على السلطة السياسية فى مصر تكوينات إجتماعية على مستوى أدنى منها، كما هى الحال مثلا فى ليبيا، أو العراق، أو سوريا، أو لبنان، حيث تبرز قوة القبيلة، والمنطقة، والطائفة، والمذهب، بل والعائلة، بعبارة أخرى حيث تبرز الانتماءات الأولية تنازع الدولة على انتماء السكان وولائهم لها.

لم يمضِ على هذا الكلام 48 ساعة إلا وكانت قبيلتان تخوضان حربا فى أسوان يسقط فيها عشرات القتلى! المتحدث الرئاسى المصرى تساءل هل تابع ذلك السائل الأفريقى وغيره من حضور المناقشة العامة أحداث أسوان، وماذا لعلهم فكروا الآن فيما قاله هو عن التكامل المصرى وعن أسبابه. ثم سأل المتحدث نفسه، هل كانت روايته صحيحة أم أنها كانت محض خيال؟ فكِر المتحدث ووصل إلى أنها كانت صحيحة وأن لها أسانيدها، وهى رواية الوطنية المصرية، وأنها كانت بمثابة المقال السليم فى مقام المناقشة العامة فى مدينة أوروبية. أما فى مقام مصرى، فليس المطلوب سرد الرواية وإنما نقدها والمطالبة بالعمل على أن تبقى سليمة.

•••

أحداث أسوان فيها تهديد للتكامل الوطنى. لابد أن للأحداث أصولا فى الأزمة الاقتصادية الناشئة عن تلاشى السياحة فى المدينة والمحافظة. إنخفاض الموارد أدَى إلى توترات انفجرت فى شكل صراعات عنيفة سواء كانت هذه الصراعات لأسباب مباشرة هى فى ظاهرها سياسية، مثل الإعلان عن المواقف من هذا الفريق السياسى أو ذاك، أو لأسباب اجتماعية مثل معاكسة فتاة أو خلافات بين الشباب. المهم فى الأمر أنه فى حالة الضائقة المعيشية، وفى حالة العجز البيِن للجهاز المسئول عن إيجاد البيئة المناسبة لفك هذه الضائقة، وهو الدولة، يرتد السكان إلى انتماءتهم الأولية، يتوحدون فيها ويبحثون من خلالها عن الفوز بجانب من القيم المادية والمعنوية الشحيحة المتاحة. فى السودان، ألم يكن التدهور البيئى وشح موارد المياه وما نتج عنه من تهديد لأسس النشاط الاقتصادى، سببا رئيسيا للنزاع فى دارفور، وهو نزاع نخر فى التكامل الوطنى السودانى ويهدد بمزيد من تقويضه، بعد أن هيأ تخلف جنوب السودان أسباب انفصاله بالفعل؟

•••

الوضع فى مصر لا ينبغى الاستهانة به. يوجد عجز أصلا فى التكامل الوطنى. هذا التكامل لكى يكون متينا يجب أن تكون الفوارق الاجتماعية والإقليمية محدودة. دعك الآن من الفوارق الاجتماعية وانظر فى الفوارق الإقليمية. معدلات الفقر أعلى وبشكل حاد، ومعدلات الالتحاق بالمدارس، خاصة التحاق البنات، أدنى فى محافظات الصعيد الأعلى عنها فى باقى المحافظات المصرية. المتابع للصحافة المصرية فى الأسبوع الأخير يجد أن تغطيتها لمسألة الثأر فى الصعيد بيَنت أن العدد الأكبر من حالاته هى فى محافظات أسيوط، وسوهاج، وقنا، حيث يرتفع الفقر عنه فى غيرها من المحافظات. وحالات الثأر لم ترتفع فجأة بعد يناير 2011، بل إن ارتفاع حالاته سجل معدلات عالية منذ 2009. الفقر والتخلف الاقتصادى والاجتماعى يتسببان ومنذ زمن بعيد فى الهجرة الداخلية والخارجية، هجرة الفقراء فى سبيل أى قوت، وهجرة المتعلمين بحثا عن فرص للعمل أو عن عمل أفضل يدر دخولا معقولة. هذه الهجرة الأخيرة بالذات تفرغ المناطق المتخلفة من أهم عناصر التنمية، وهو العنصر البشرى المتعلم، فتزيد من إضعاف مقومات التنمية، وتعمق من التخلف النسبى لهذه المناطق، وتزيد من تهديد التكامل الوطنى. ليس هذا وقفا على مصر، وإنما هى قاعدة متكررة فى بلدان العالم.

•••

الثأر ليس مختلفا فى طبيعته عن اشتباكات أسوان وعن مصادر تهديد التكامل الوطنى. الثأر تعبير عن أهمية الانتماءات الأولية وتنافسها مع الولاء للدولة والانصياع لقوانينها، بل وسيادتها الفعلية عليها. أليس فى ذلك شىء من المنطق فى ظل عدم اضطلاع الدولة بوظائفها؟

تقصير الدولة كان تاريخيا، حتى فيما يتعلق بالرى، رى الحياض الذى سمح بزراعة واحدة فى مقابل رى دائم وفر الماء لزراعات ثلاث فى السنة. الدولة حاولت تدارك ذلك بتوفير المياه والكهرباء، ولكن جهودها لم تصبح كافية بل وتراخت فى عموم مصر فى العقود الأخيرة. أما النظام السياسى فقد أدَى خلوه من أى فكر سياسى جاد جامع وموحِد، سواء كان ليبراليا، أو اشتراكيا، أو حتى قوميا، إلى تشجيعه الارتداد إلى الانتماءات الأولية القبلية، والمناطقية، والعائلية. ليس بعيدا ذلك اليوم الذى صرَح فيه واحد من قياديى الحزب الوطنى، كان ذا تاريخ حافل بالأفكار الإشتراكية ومن بعدها بالأفكار الرأسمالية، أن حزبه لن يرشح فى الانتخابات التشريعية التى كان إرجاؤها وشيكا آنذاك، أن حزبه الوطنى لن يرشح أحدا ليست لديه عصبية أو حظوة! أى عقل كان هذا؟ الناطق البارز باسم الحزب المسيطر على النظام السياسى، وهو النظام المفترض فيه حفظ الدولة، يدعو علنا وبتفاخر إلى تقويض هذه الدولة.

المؤسف أن تقويض الدولة مستمر من قبل السلطات المفترض فيها حفظها بل وتدعيمها. حسن النية مفترض ولكن المسألة تتعلق بسلامة الأدوات الستخدمة من عدمها. بشأن أحداث أسوان مازال التجاذب قائما بين إعمال القانون، والقبض على المشتبه فى مسئوليتهم الجنائية، وتقديمهم للنيابة تمهيدا لاتهامهم ومحاكمتهم، ثم إنزال العقوبات بهم إن ثبتت مسؤلياتهم، من جانب، وبين الدعوة إلى جلسات الصلح العرفى، ودفع الدية، وتوسط رجال الدين والخير، من جانب آخر. أدوات الدولة الحديثة التى تعزز شرعيتها فى مقابل أدوات التشكيلات الاجتماعية الأولية التى تدعم شرعيتها هى على حساب شرعية الدولة.

•••

ليس المطلوب طمس التمايزات الاجتماعية ولا القضاء على التشكيلات الاجتماعية الأولية. ولكن المفترض هو أن يعمل النظام السياسى على أن تؤدى الدولة وظائفها وأن تبذل جهودا تمييزية فى صالح المناطق الأقل تنمية، وعليه، وهو ما لا يقل أهمية إن لم يزد، أن يعزز أطر المشاركة السياسية والاجتماعية الفعالة فى أى نظام سياسى حديث، وهى الأحزاب، والنقابات، ومنظمات المجتمع المدنى، وأن يخلص فى تمكينها من تعبئة المواطنين، ومن التفاعل فيما بينها للوصول إلى تحقيق الصالح العام. وعلى الدولة والنظام السياسى معها أن يكفا عن تقويض نفسيهما والتكامل الوطنى معهما.

الحلول لمشكلات الاقتصاد والمجتمع هى حلول سياسية تستخدم فيها أدوات الدولة الحديثة.

أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات