أزمة القانون الدولي المعاصر - نبيل العربي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 12:38 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أزمة القانون الدولي المعاصر

نشر فى : السبت 14 مارس 2009 - 7:54 م | آخر تحديث : السبت 14 مارس 2009 - 7:54 م

 يثور التساؤل هذه الأيام عما إذا كان القانون الدولى المعاصر يسمح بملاحقة ومحاسبة ومعاقبة قادة وجنود الجيش الإسرائيلى الذين ارتكبوا جرائم حرب فى غزة. والإجابة عن هذا التساؤل هى ــ بكل وضوح ــ: نعم.

فالنظام الدولى المعاصر يسمح بل يطالب بتوقيع العقاب على كل من يقترف الجرائم الدولية الجسيمة التى تشمل إبادة الجنس وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

ولقد تقرر الالتجاء لمحاكم الجنايات الدولية لأول مرة فى التاريخ بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وشُكلت محكمة نورمبرج لمحاكمة قادة ألمانيا النازية وشكلت محكمة أخرى فى طوكيو لمحاكمة القادة العسكريين فى اليابان.

ثم توقف المجتمع الدولى عن تشكيل محاكم أخرى لفترة من الزمن حيث ساد شعور بأن أهوال وفظائع الحروب لن تتكرر خصوصا أن الأمل كان معقودا على أن مبادئ وأحكام ميثاق الأمم المتحدة ــ وعلى وجه الخصوص الصلاحيات الواسعة غير المسبوقة التى أسبغت على مجلس الأمن ــ سوف تكون كفيلة بضمان سلام عادل يسود العالم.

ولعلنا جميعا نستذكر أن ديباجة ميثاق الأمم المتحدة تؤكد على «نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التى فى خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزانا يعجز عنها الوصف» كما أن المادة الأولى من الميثاق تؤكد ضرورة قمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم. ولكن للأسف فإن وجود ثغرات فى تحديد نطاق استخدام الفيتو فى مجلس الأمن تعمدت الدول الكبرى الإبقاء عليها فى الميثاق لاستغلالها لمصلحتها.

وأدى سوء الاستغلال إلى ابتعاد المجلس عن المسار الأصلى وإلى ازدواجية فى المعايير التى تعانى منها الدول ــ وبالذات الدول العربية ــ بحيث لم يعد مجلس الأمن الحامى للشرعية الدولية كما كان يرمى ميثاق الأمم المتحدة.

ومع ذلك فقد شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تقدما مذهلا فى إعداد إطار قانونى يحمى حقوق الإنسان من جميع صور العدوان، وأبرمت اتفاقيات عديدة تعكس قواعد الزامية تمثل القانون الدولى الإنسانى.

وفى هذا الإطار تجدر الإشارة إلى بعض أهم الإنجازات التى حققها المجتمع الدولى فى سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية تأكيدا لهذا التوجه منها:

ـ إبرام اتفاقية تحريم إبادة الجنس Genocide عام 1948وتنص أحكامها صراحة على جواز إحالة اتهام دولة بارتكاب هذه الجريمة الشنعاء إلى محكمة العدل الدولية بناء على طلب أى طرف فى الاتفاقية وتجدر الإشارة إلى أن جميع الدول العربية أطراف فى هذه الاتفاقية وكذلك إسرائيل.

ـ إبرام اتفاقيات جنيف عام 1949 وتقرير المسئولية الجماعية Collective Responsibility لجميع الدول الأطراف فى التحقق من احترام الاتفاقيات وقمع ومعاقبة مرتكبى الجرائم الدولية الجسيمة.
ـ العديد من الاتفاقيات فى مجال حقوق الإنسان وعدم التفرقة العنصرية وحماية الأقليات ومناهضة التعذيب.

ـ إنشاء عدة محاكم جنائية دولية خاصة لمحاكمة كل من اقترف جرائم حرب فى يوغوسلافيا السابقة ورواندا وسيراليون وغيرها من الدول التى شهدت فظائع ومجازر.

ـ وأخيرا نجح المجتمع الدولى فى إبرام النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة فى روما فى يوليو 1998. وقد نصت ديباجة النظام الأساسى على أن الدول الأطراف فى النظام الأساسى تؤكد تصميمها على وضع نهاية للحصانة التى تمتع بها مقترفو الجرائم الجسيمة فى الماضى.

وقد حدد النظام الأساسى أربعة جرائم تتسم جميعها بالجسامة وهى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة إبادة الجنس Genocide وجريمة العدوان. ولم يعد لأول مرة فى التاريخ من يرتكب إحدى الجرائم الجسيمة الواردة فى النظام الأساسى يتمتع بحصانه أيا كان المنصب الذى يشغله بما فى ذلك رؤساء الدول.

مما تقدم، يبدو جليا أن النظام القانونى الدولى المعاصر يسمح ويطالب بملاحقة ومعاقبة من يرتكب أيا من الجرائم الجسيمة السابق الإشارة إليها وأزمة القانون الدولى المعاصر هى فى تخلف النظام القضائى عن اللحاق بالقواعد القانونية. ففى الأنظمة الداخلية يستطيع أى فرد أن يقاضى الفرد الآخر دون موافقته أما فى النظام الدولى فلا تستطيع دولة مقاضاة دولة أخرى دون موافقتها.

وهنا تتضح أوجه قصور النظام الدولى المعاصر.

هذا القصور يتمثل فى الصعوبات والعقبات التى تعترض نظر القضاء الدولى لهذه الجرائم. وجانب من هذه الصعوبات والعقبات ينبع فى أن الأساس الفقهى للنظام الدولى المعاصر لايزال ترتكز مقوماته على قاعدة أن جميع الدول لها سيادة متساوية، وأن الدولة تخضع فقط لقضائها الوطنى ولا تخضع للقضاء الدولى إلا برضاها. والاستثناء الوحيد لهذه القاعدة هو ما يصدر عن مجلس الأمن من قرارات خاصة بالمحافظة على السلم والأمن الدولى وطبقا لأحكام الفصل السابع من الميثاق.

ومن المهم أن ننظر إلى: كيف يمكن الالتجاء إلى القضاء الدولى فى الجرائم الجنائية الجسيمة لا يتحقق ــ طبقًا للقواعد القانونية السارية الآن، وسوف أعرض بإيجاز شديد ــ أرجو ألا يكون مخلا ــ إلى الآليات المتاحة:

الالتجاء إلى محكمة العدل الدولية على أساس اتهام إحدى الدول بأنها قد ارتكبت جريمة إبادة الجنس.
الانضمام إلى النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية.

وينعقد اختصاص المحكمة بالنسبة للدول الأطراف فى نظامها الأساسى كما ينعقد هذا الاختصاص إذا أحال إليها مجلس الأمن حالة معينة كما حدث أخيرا بالنسبة للرئيس عمر البشير على الرغم من أن المتفق عليه فقها وقضاء أن رؤساء الدول لديهم حصانة قضائية فى أثناء مباشرتهم لمسئولياتهم وأن تقديمهم للمحاكمة لا يتم إلا بعد انتهاء توليهم لمناصبهم الرسمية.

الالتجاء إلى مجلس الأمن بهدف إصدار المجلس قرارا تحت أحكام الفصل السابع من الميثاق يقضى بإنشاء محكمة خاصة كما حدث بالنسبة ليوغوسلافيا السابقة ورواندا وسيراليون وأخيرا المحكمة التى تنظر الآن فى حادث اغتيال الرئيس الحريرى.

وواقع الأمر أن كلًا من هذه الآليات يكتنف الالتجاء اليها عقبات ناجمة عن طبيعة النظام الدولى المعاصر وذلك على الوجه الآتى:

الإلتجاء إلى محكمة العدل الدولية بواسطة إحدى الدول الأطراف فى اتفاقية إبادة الجنس Genocide برفع دعوى أمام المحكمة على أساس المادة التاسعة من الاتفاقية التى تسمح بمقاضاة أى دولة طرف دون موافقتها، وجميع الدول العربية وكذلك إسرائيل أطراف فى الاتفاقية.

وهناك سوابق دولية فقد رفعت كل من البوسنة وكرواتيا دعاوى أمام المحكمة ضد حكومة بلجراد. ولكن من الناحية السياسية والعلمية هل هذا التوجه قابل للتحقيق.. هل لنا أن نتصور أن تتقدم إحدى الدول العربية أو الدول العربية مجتمعة على هذه الخطوة؟ تساورنى شكوك لا أخفيها، والعقبة هنا لا تنبع من قصور فى النظام القضائى الدولى ولكن تنجم من الأوضاع السياسية فى المنطقة.

أما عن الالتجاء إلى مجلس الأمن فهو لا يتعدى فى الظروف الدولية السائدة أن يكون طرقا لباب محكم الإغلاق. فتوازن القوى فى الولايات المتحدة لا يسمح بمحاكمة إسرائيليين. وبالتالى يقتصر الالتجاء إلى المجلس على الأغراض الدعائية وليس لتحقيق نتائج عملية.

قد يتجه التفكير إلى مطالبة الجمعية العامة بإنشاء محكمة خاصة، حيث تسمح المادة 22 من ميثاق الأمم المتحدة للجمعية العامة أن تنشئ أجهزة فرعية Subsidiary Organs لما تراه ضروريا للقيام بوظائفها. وبالطبع سيثور جدال محتدم عما إذا كان إنشاء محكمة يدخل فى نطاق ما هو «ضرورى للقيام بوظائفها».

ويمكن الدفع بأن الميثاق لم يخول مجلس الأمن صلاحية إنشاء محاكم ــ وقد أثار ميلوسوفيتش هذا الدفع فى أثناء محاكمته أمام المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة ــ ومع ذلك أنشأ المجلس عدة محاكم. ولكن فى نهاية المطاف حتى بفرض نجاح هذا المسعى ــ وهذا أيضا مشكوك فيه ــ فسوف تبقى العقبة الحقيقية هى أن الجمعية العامة تملك صلاحية إنشاء أجهزة فرعية تتولى مهام مستحدثة، كما تم عام 1956 عندما أنشأت الجمعية العامة قوات الطوارئ الدولية للإشراف على انسحاب اسرائيل من سيناء.

ولكن الجمعية العامة لا تملك صلاحية إلزام الأفراد المتهمين بالمثول أمام هذه الأجهزة، وليس صحيحا ما يردده البعض من أن الجمعية العامة يكون لها صلاحيات مماثلة لمجلس الأمن عندما تجتمع فى إطار القرار الشهير الذى صدر فى أثناء حرب كوريا عام 1950 ويطلق عليه قرار الاتحاد من أجل السلام الصادر، وذلك لأن صلاحيات ومسئوليات أجهزة الأمم المتحدة يحددها الميثاق ولا تملك الجمعية العامة تعديل هذه الصلاحيات بقرار منها.

كذلك يمكن التفكير فى الالتجاء إلى القضاء والمحاكم الوطنية فى بعض الدول التى يأخذ نظامها القانونى بقاعدة الولاية القضائية العالمية Universal Jurisdiction مثل أسبانيا وبلجيكا. وتعود جذور هذه القاعدة القانونية إلى القرن التاسع عشر عندما نشأت فكرة أن بعض الجرائم مثل القرصنة والاتجار فى الرقيق تعتبر جرائم ضد الإنسانية جمعاء بحيث يحق لأى دولة محاكمة المتهم فى هذه الجرائم بغض النظر عن مكان وقوع الجريمة أو جنسية مرتكبها.

مما تقدم يتضح أن القواعد القانونية تسمح ــ بل تطالب ــ بملاحقة ومقاضاة كل من يرتكب الجرائم الدولية الجسيمة. والعقبه الحقيقية تتمثل فى أن آليات المقاضاة الدولية ليست دائما متاحة.

وازاء هذا الوضع يجب على المجتمع الدولى أن يسعى حثيثا لإصلاح وتطوير آليات التقاضى الدولية وإزالة عقبات تطبيق القواعد القانونية الملزمة سارية المفعول، ويكون إصلاح هذا الخلل بتكثيف السعى لإبرام اتفاقيات تسمح بالالتجاء إلى آليات التقاضى الدولية. دون عقبات إجرائية وشكلية، ولا يكفى فى هذا الصدد ارتفاع الأصوات بالتنديد بازدواجية المعايير، بل يجب السعى بهمة لقبول جميع الدول للاختصاص الإلزامى لمحكمة العدل الدولية والانضمام إلى النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية.

وإذا نظرنا مرة أخرى إلى ما وقع فى غزة من قتل وتدمير فلابد من إعداد ملف متكامل بما ارتكب من جرائم فى غزة، وأعتقد أن لجنة تقصى الحقائق التى شكلتها جامعة الدول العربية قد كلفت باعداد هذا الملف لعرضه على آليات التقاضى الدولية، وفى هذا الصدد لابد أن تتحمل الدول العربية مسئولياتها كاملة وبشجاعة وتشرع فى أقرب وقت وبصورة جدية وبدون تخاذل فى طرق أبواب آليات التقاضى الدولية.

لأنه فى ظل هذه الأزمة فى القانون الدولى المعاصر قد يستمر عالمنا ــ كما قال أحد فلاسفة القانون على الأرض ــ يطبق القانون أما تحقيق العدالة فهو فى السماء.

نبيل العربي  قاض بمحكمة العدل الدولية سابقا .. وأمين عام جامعة الدول العربية السابق
التعليقات