البيت بيتين - داليا شمس - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 6:39 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

البيت بيتين

نشر فى : السبت 14 أبريل 2018 - 10:05 م | آخر تحديث : السبت 14 أبريل 2018 - 10:05 م

تلمح أطياف من عاشوا هنا يوما. شيء ما يذكرنا بهم حين نلمس الحجر. في بيت الكريتلية أو متحف جاير أندرسون نشعر بوجود من مروا بالبيت من قبل، وهو بالأحرى بيتين تربط بينهما قنطرة، يرجع تاريخ أحدهما إلى القرن السابع عشر حين بناه محمد بن الحاج سالم بن جلمام الجزار عام 1632م، ثم تعاقبت عليه الأسر الثرية إلى أن سكنته سيدة من جزيرة كريت وأصبح يعرف ببيت الكريتلية، أما الثاني فقد أنشأه عبد القادر الحداد في القرن السادس عشر، تحديدا في العام 1540م، وصار يعرف ببيت آمنة بنت سالم التي كانت آخر من آل لها البيت، ويرجح أنها كانت من أهل صاحب المنزل الأول.

وفي سنة 1928 نزعت مصلحة التنظيم ملكية هذين البيتين، وأرادت هدمهما لتنفيذ مشروع للتوسع حول جامع أحمد بن طولون الملاصق لهما، لكن لجنة الآثار العربية اعترضت وبدأت في ترميمهما ليصبحا مثالا على طراز العمارة في العصر العثماني. في العام نفسه كان جاير أندرسون (1881-1945)، الضابط في الجيش الإنجليزي الذي صار لاحقا طبيبا للملك فاروق الأول، كان في زيارة لجامع ابن طولون و تحدثت إليه سيدة من خلف مشرفيات البيت، موجهة له الدعوة بالدخول، لم يفعل لكن ظل معلقا بصورة البيتين، وتقدم إلى لجنة الآثار العربية بطلب عام 1935 لتأجيرهما بعد أن تقاعد، على أن يقوم بـتأسيسهما على الطراز العربي وعلى أن تعود ملكيتهما للحكومة المصرية في حالة وفاته أو رحيله من البلاد، بما فيهما من ممتلكاته الخاصة التي جمعها خلال سفراته المختلفة، وبالفعل عاد إلى بريطانيا لظروف مرضه عام 1942، بعد أن قضى أجمل سبع سنوات من عمره داخل البيت الكبير الذي يحتفل هذا الشهر باليوبيل الفضي على افتتاحه كمتحف يضم كل مقتنيات صاحبه التي ظل معظمها في مكانه يشهد على حيوات وحكايات متعددة.

***

بعد الزيارة، بحثت عن معلومات تخص دبش، الخادم النوبي الذي تزين صوره ولوحاته المكان كأنه ضمن أفراد العائلة، والذي أوصى أندرسون أن يمكث في البيت بعد تسليمه للحكومة المصرية. كان ينام على مقربة من سيده. ملامحه سمراء دقيقة، ووجهه اللامع به طفولة عابرة للسنين.

في إحدى الغرف التي يصل عددها إلى سبع وثلاثين، تطالعنا على الحائط أطباق نحاسية صغيرة نقش عليها خادم آخر من سكان البيت، وسجل عليها الأساطير التي نسجت حول المكان، وقد قيل ضمن ما قيل إنه بني، هو والجامع، على ما تبقى من جبل يشكر حيث رست سفينة نوح.

التفاصيل تزيد من جموح الخيال الذي تداعبه رويدا رويدا صور أبطال هذه الحكايات الأسطورية وشخوصها. مصباح يشبه الزيتونة التي تفاءل بها أهل زمان يأخذنا إلى سالف العصر والآوان، وحيث كان يا ما كان. قط أسود فرعوني وضع أندرسون في أذنه قرط ذهبي وتمائم من حجر الأردواز تقي من الحسد، وبئر مسحور ترى فيه صورة من تحب و ينطلق منه صدى الصوت مدويا ليذكرك باسمه حين تردده بصوت خافت، وعرائس خشبية صغيرة كتلك التي كانت تصنعها وتثقبها الجدات بالإبرة لتحفظنا من العين...سأجن من فرط ما ألهث وراء الحكايات... حكايات من عاشوا في هذا البيت ومن زاروه فعلقت به أطيافهم، وظلت صورهم السينمائية محفورة في الوجدان.

***

وردة الجزائرية في فيلم "ألمظ وعبد الحامولي" اعتلت هذه الأريكة وغنت من وراء المشرفية الأرابيسك، كما رقصت وغنت سعاد حسني "بانوا بانوا على أصلكم بانوا" في فيلم "شفيقة ومتولي" لتفضح عالم الرجال من قاعة الاحتفالات الخاصة بالبيت، عالم حرافيش محفوظ الذي تتبدل أسماؤهم دون تغيير جوهري في المحتوى.

أسمع ذبذبات وهمسات وسكنات نور تطل من ناحية مسجد ابن طولون أو الجدار الملاصق للمنزل، وكأن صوت الشيخ سليمان الكريتلي يروي كما وصفه أندرسون في كتابه "أساطير بيت الكريتلية"، قائلا: " أراه الآن بمخيلتي، مرتديا قفطانه الأبيض الطويل، وسترته السوداء، على رأسه طربوش أحمر مهلهل بدون العمامة الخضراء التي عادة ما يلفها أولياء الله حول طرابيشهم، وبيديه مجموعة خواتم من الفضة والفيروز، أصابع يديه مصبوغة بالنيكوتين، فقد كان يدخن السجائر بشراهة، وهو يحتسي أكواب القهوة، أو يرشف القرفة".

الطقس حلو، والأحاديث ودية، والحواديت تتسرب إلى أعلى الرأس، فتظن أنك تسمع حوارات جانبية دارت قديما في أروقة المنزل ودهاليزه أو حول سراديبه.

ترى ما الذي كان يخبئه أندرسون تحت البلاطة في غرفة نومه أو داخل الخزنة التي أهداه إياها الملك فاروق؟ شذرات من أغاني الحب والهيام تأتي من خلف المشرفيات والمشربيات، من الحرملك والسلاملك. كيف يمكن للمرء أن يحب ويغازل والمئات يموتون من حوله كل يوم تحت القنابل؟ تجمعات وتحالفات وميليشيات تنبت كالفطر كل يوم في أجواء الحرب العالمية الثانية التي لم تكن ببعيدة عن ما نحن فيه الآن.. الأسعار تقفز، والمواطن معها.

***

أهرب إلى عصر المآدب وحجرة السفرة الفيكتورية أو حجرة النوم الدمشقية أو حتى إلى الصالون الهندي، فأنا أعلم أن الغائب لن يعود ولن يرجع شيء إلى سابق عهده. حياة يومية كانت وذهبت مثلما سنذهب جميعا، ونصبح مجرد ذكرى عالقة بحجر شرفة أو جدار متشقق. أفضل أن أتخيل أطباق الرز بالحليب التي تصبها إحدى سيدات البيت القديم من قدر نحاسي ضخم في أطباق صغيرة الحجم، ثقيلة الوزن بمقاييس اليوم، وقد رشت عليها قليلا من القرفة والفستق واللوز المحمص، فالبيوت تحمل بين جدرانها كل هذه الروائح والأساطير، نتعلق بها لأنها عالمنا الأول، حيث تتكون وتنمو الذاكرة، وبيت أندرسون رأى الكثير.

التعليقات