تشيلى وأخواتها: عدالة اجتماعية + تداول للسلطة = (تقدم) - سمير مرقس - بوابة الشروق
السبت 18 مايو 2024 1:34 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تشيلى وأخواتها: عدالة اجتماعية + تداول للسلطة = (تقدم)

نشر فى : الإثنين 15 مارس 2010 - 9:31 ص | آخر تحديث : الإثنين 15 مارس 2010 - 9:31 ص

 دراسة خبرات الآخرين الذين تقدموا ليست ترفا أو رفاهية.. إنها تقليد قديم بدأ مع مفكرى عصر النهضة: الطهطاوى والأفغانى والإمام محمد عبده وآخرين.. الذين انشغلوا بسؤال أساسى هو «لماذا يتقدم الآخرون؟».. وفى غمرة الحديث الحالى عن التغيير أظن أنه من المفيد أن يستمر هذا التقليد ألا وهو محاولة الاقتراب من خبرات الآخرين وفهم لماذا يتقدمون، ولماذا نظل نسأل هذا السؤال؟ وكأنه سؤال قدرى أبدى.. لقد كنا فى فترة زمنية نقارن أنفسنا بالغرب وخصوصا فرنسا.. ثم بدأت المقارنة تتجه شرقا حيث اليابان والهند والصين.. ثم بدأنا نتحدث عن كوريا الجنوبية وماليزيا.. وها هى القارة اللاتينية تنهض.. ويبقى السؤال مشروعا مادام غيرنا يتقدم.. فى هذا السياق يأتى حديثنا عن تشيلى وأخواتها: البرازيل والأرجنتين وكوستاريكا..

وهى دول أتاحت لى الدراسة المبكرة للحركة الدينية هناك وأقصد حركة لاهوت التحرير (نشرت فى مجلة القاهرة فى يناير 1994)، أن أعرف الكثير عنها وعن مسارها النضالى الذى تكلل بنهاية 2009 ويعكس تجربة ثرية جديرة بالفهم والتعلم..

تشيلى عضو فى نادى الدول الغنية.. لماذا؟

لم تشأ نهاية 2009 أن تنتهى إلا وتداولت وكالات الأنباء خبرا يقول إن منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية قد وجهت دعوة رسمية إلى تشيلى للانضمام إلى عضوية المنظمة، ولتكون بذلك أول دولة من أمريكا الجنوبية ضمن أعضاء المنظمة الذين يبلغون 30 دولة من ضمنها: الولايات المتحدة الأمريكية، واليابان، ودولا أوروبية.. وأهمية هذه الدعوة أنها لم تحدث ــ بحسب وكالات الأنباء ــ منذ أكثر من جيل..

والسؤال الذى سيفرض نفسه على القارئ الكريم ما هى المبررات التى احتكمت لها هذه الدعوة؟.. أو لماذا تشيلى؟.. بداية تقول لغة الأرقام أن تشيلى حققت معدل نمو يقترب فى المتوسط من 5% على مدى حقبة كاملة منذ 2000 إلى 2009 ويعد الخبراء معدل النمو الاقتصادى فى تشيلى من أسرع المعدلات فى هذا المقام خلال جيل كامل. كما تشير الدراسات إلى انخفاض معدلات الفقر من نسبة 45% قبل انتقال السلطة إلى الجنرال بينوشيه إلى 14%. كما أن تشيلى حافظت على مسيرة ديمقراطية ثابتة ومستقرة لعل من أهم ملامحها: نزاهة الانتخابات، القدرة على تشكيل تحالفات حزبية قوية قادرة على الحكم، وبالرغم من استمرار التحالف اليسارى بقيادة السيدة باتشيلى فى الحكم لدورات ثلاث، فإن هذا لم يمنع أن يخسر هذا التحالف مؤخرا بالرغم من كل ما أنجزه، وأن يتم تداول للسلطة سلمى للحزب المعارض.. أى يحدث تحول من تحالف يسار الوسط إلى يمين الوسط بكل سلاسة ويسر.

وربما يكون لسان حال القارئ ما السر الذى دفع تشيلى إلى ما أصبحت عليه؟

كلمة السر: توزيع عادل للثروة واقتصاد إنتاجى وتكنولوجيا.

بعد طول معاناة من حكم الطاغية بينوشيه الذى تولى الحكم بعد الانقلاب التاريخى الشهير على الليندى فى سبتمبر 1973، اتفق تحالف اليسار بما ضم من قوى متنوعة من اشتراكيين، وماركسيين، وديمقراطيين، ودينيين (كما حدث فى تشيلى والأروجواى)، على أن العدل الاجتماعى يأتى على قائمة الأجندة الوطنية.. وأن توفير شبكة أمان اجتماعى هو المهمة الأولى التى يجب إنجازها. عمل السياسيون فى تشيلى على مكافحة الفقر وتأمين الرعاية الصحية والتعليم وتوفير الخدمات الأساسية وإتاحة فرص عادلة بين الجميع. وكان المدخل لذلك هو التوزيع العادل للثروة الوطنية بين جميع المواطنين، فالشعب شريك فى عوائد التصدير وبخاصة للثروات الطبيعية الرئيسية مثل النفط والنحاس.. إلخ.

لقد كان سياسيو تشيلى من الوعى أن يدركوا أن «التوزيع العادل للثروة لا يكفى وحده لإنجاز التقدم».. وهو ما يلزم الاهتمام بالتصنيع من جهة، وبالمشاركة العملية فى التطور التكنولوجى، ومن محصلة ما سبق يتحقق التقدم.

لذا فإن التركيز على أهمية مواكبة التطورات التكنولوجية فى شتى المجالات مكن البرازيل من أن تكون لاعبا أساسيا فى مشروع جينوم الوراثى المهم، وأن تحتل تشيلى الموقع التاسع فى مجال تكنولوجيا المعلومات.. تضمنت هذه الرؤية أيضا استعادة قيمة الوطنية بغير انغلاق، وهو أمر يحتاج وحده إلى دراسة متعمقة وخصوصا مع المقولات التى تدعى نهاية مفهوم الوطنية، كذلك التأكيد على تمكين الناس إيمانا بأن لدى كل مواطن ما يمكن أن يقدمه فى المشروع التنموى المطروح، كما تم وضع سياسة تبدأ بالمناطق الأكثر فقرا.

قام الناس بالانتظام فى روابط وحركات وأحزاب فلاحية وعمالية شبابية، وتفاعل الفكر الدينى (لاهوت التحرير تحديدا) مع آمال الناس واستطاع أن يبلور مشروعا اجتماعيا تقدميا،يتجاوز الفهم الكلاسيكى فى تقديم الخدمات ذات الطابع الخيرى إلى إثارة الوعى لدى الناس بسوء أوضاعهم بسبب الظلم الاجتماعى وضرورة تحقيق العدل والمساواة.. وعنيت القوى الوطنية بإعادة ترتيب البيت من الداخل فقامت بأمرين، الأول استعادة هيبة القضاء لضمان الحصول على الحقوق للجميع دون تمييز. الثانى تكوين لجنة تضم شخصيات عامة من كل الاتجاهات كما ضمت شخصيات دينية كان لها دور ثورى فى مواجهة الاستبداد والانحياز الواعى للناس، كانت مهمتها أن تعد المسرح السياسى لأن تتفاعل القوى السياسية فيما بينها التزاما بالديمقراطية والقبول بها مرجعية حاكمة لهذه التفاعلات..

الحصان الأبيض: قدرة على الانطلاق وتجاوز الصعاب

بالعودة على الثمانينيات من القرن الماضى لم يكن هناك من يتوقع ما حققته تشيلى.. ولكن الأمل والإرادة الشعبية، لذا دائما أتذكر فى هذا المقام فيلم كوستا جافراس «مفقود»، الذى قام ببطولته جاك ليمون، والذى كان يتناول مجازر بينوشيه، المشهد الذى «انطلق فيه الحصان الأبيض فى ظلام الليل تطارده رصاصات القهر معطيا الأمل فى أن هذا الظلام لابد له وأن ينجلى وأن نور التحرر آت لا ريب فى ذلك، بالرغم من الجثث التى كانت مرصوصة على مساحة ستاد كرة القدم فى تشيلى».. إنه الأمل فى بناء مجتمع جديد يقوم على العدل وعلى ديمقراطية سليمة.. وقد كان.

أن أهمية التجربة التشيلية فى أنها استطاعت التعاطى مع مشكلات مزمنة تاريخية تعرضت لها تشيلى وأخواتها بسبب الاستيطان القهرى بفعل الغزو الأوروبى (فى القرن الـ15) من جهة. ولتبعية لاحقة للولايات المتحدة الأمريكية أدت لمصادرة كلية لهذه الدول من جهة ثانية، ثم لحكم الجنرالات بتحالفه مع اليمين الدينى المحافظ والشركات المتعددة الجنسية التى كانت تمول الانقلابات المتعاقبة والذى يعد انقلاب تشيلى نموذجا كلاسيكيا لهذا لتحالف من جهة ثالثة وما مثله من قمع وقهر للشرائح الوسطى والفقراء.. وهنا مكمن أهمية هذه التجربة..

إنها تجربة متميزة وناجحة يمكن أن نقيس نجاحها بقدرتها على وضع سياسات قادرة على مواجهة مشكلات مزمنة مثل البطالة والفقر، وتوفر أمانا اجتماعيا، وتقلل حاجتها للمعونات الخارجية، وتتمرد على الوصفة النيوليبرالية، وتقدم نموذجا تنمويا معتمدا على الذات له وجه إنسانى، وتؤسس لاقتصاد إنتاجى لا ريعى.. كذلك بقدرتها على تجاوز الأزمة الاقتصادية أسرع من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا (راجع تقرير الاتجاهات الاقتصادية ــ المحرر أحمد السيد النجار ــ 2009)..

ولعل المواجهة الناجحة بكل المقاييس التى أنجزتها تشيلى للزلزال الذى تعرضت له الشهر الماضى يعكس ما حاولت ناعومى كلاين أن تطرحه فى مقالها المنشور فى الشروق (11مارس الحالى) حول السكن الآمن وقلة الفساد.. وبحسب الواشنطن بوست فى أكثر من تعليق أن: «قدرة المجتمع على التعافى من كارثة طبيعية هى انعكاس للقدرة الاقتصادية والسياسية»..

التعليقات