روح البشر فى الأشياء - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 3:47 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

روح البشر فى الأشياء

نشر فى : السبت 15 مارس 2014 - 8:35 ص | آخر تحديث : السبت 15 مارس 2014 - 8:35 ص

يطوف بين الشوارع الواسعة أحياناً، ووسط الطرقات الضيقة فى أحيان أخرى، رجال ونساء، حاملين على ظهورهم آلة تبدو مُنتَزَعَة مِن عصر قديم. أغلبهم من الشباب، وأقلهم من الكهول والعجائز، وفى بعض المرات يظهر أطفال يحملون الآلة ذاتها التى تتكون من دائرة معدنية مفرغة وأرجل أربعة. رغم غرابة المظهر إلا أن النداءات على هؤلاء «السَنَّانين» لا تنقطع. ربات بيوت يطلبن شحذ السكاكين والمقصات والمخارط التى لا يخلو منها منزل، حِرَفِيُّون وفنانون يرغبون فى جلى الضُفَر والأزاميل التى لا تستقيم دونها عمليات الحفر والنحت، جزارون يحافظون على مستلزمات المهنة التى لا تعرف سوى السواطير، وفى بعض المرات يكون الطلب أكثر إثارة؛ إذ يتعامل السنان مع الخناجر والسيوف وبعض الأسلحة البيضاء الأخرى، فيقوم بإعدادها لمعارك مقبلة.

جاء كما هى العادة، البديل الكهربائى، القادر على القيام بعمل السَنَّان، ليهون من مشقته ويجعله أكثر يسراً وسهولة، وليختصر الوقت أيضاً. كان من الواجب بعد هذا أن يختفى السَنَّانون وأن ينقرض المَسَنّ اليدويّ منذ زمن مضى، لكن كلاهما قاوم وبقى، ورغم ما توفره ماكينات السن والجلخ الحديثة مِن ميزات؛ فقد ظل مِن الناس مَن حافظ على عاداته الأصيلة، وتمسك بعلاقته مع السَنَّان الجائل، دافعاً بأنه يعطيه نتيجة أفضل. نُدرة من الناس لا تزال تتشبث بأسلوب حياة قديمة؛ هناك من بقى مداوماً على التعامل مع «الترزى» أو الخياطة التقليدية، وهناك من لا يزال يطلب مِن الحِرَفيّ صناعة الأحذية التى يُفَضِّلُها بيديه.

•••

كتبت بعض الصحف عن مشاغلٍ خمسة فى أنحاء فرنسا تتعاطى حصراً مع عملية ثنى الأقمشة يدوياً، أحد هذه المشاغل يعود إلى منتصف القرن التاسع عشر ويُصَنَّفُ كموقعٍ أثريّ لا يمكن تغييره، وفى هذا المشغل تحديداً يستغرق العمل على قطعة واحدة من القماش ما يقترب من يوم كامل، وهو أمر تقوم به الآلات ولا شك بصورة أسرع، لكن الطلب المتوافر على المشغل وحرفييه يجعل أصحابه مُصِرِّين على الحفاظ عليه كما هو، بل وآملين فى التوسع أيضاً.

•••

يقول السَنَّانون إن عملهم اليدويّ يمتاز عن المَسَنَّات وماكينات الجلخ الكهربائية بقدرته على ترك حواف الأدوات المسنونة أكثر حدة، وأكثر قدرة على القطع دون إعوجاج أو انحراف، ويقول أصحاب المشغل الفرنسى الشهير «جيرار لونيون» إنهم يقومون بنحت الملابس بأيديهم، وأنهم يضفون على الأقمشة التى يتعاملون معها نبلاً وجلالاً. يبدو أن قسماً من المستهلكين يؤيد الفريقين بحماسة على اختلاف مشاربهما، وينظر بإعجاب وتقدير عميقين للمنتج الذى تتدخل فى الأيدى بصورة أكبر أياً كان. يغفر هؤلاء المستهلكين الأخطاء التى يقع فيها العامل وتتجنبها الآلة، وقد يتغاضون أيضاً عن عدم الدقة فى بعض المواضع، بل ويعتبرونها جزءًا من التَمَيُّز.

لا الملابس الجاهزة شحيحة أو سيئة، ولا عملية التفصيل والخياطة وثنى الأقمشة يدوياً أرخص ثمناً، كذلك قد لا يكون صانع الأحذية آت بما تستحيل محاكاته، ولا المَسَنّ اليدويّ بمصدرٍ للمعجزات؛ اللهم إلا فى أحوال قليلة تتوافر فيها مهارة استثنائية فى مقابل احتياج شديد الخصوصية، لكن ثمة علاقة تربط البشر ببعضهم البعض، وتعجز الآلات عن مجاراتهم فيها.

•••

يستدعى الحرفيّ جل مهارته وجهده، يولى الأمر انتباهاً حقيقياً، يتحمل بعض المخاطر التى لا تواجهها الآلة، وفى النهاية فإن جزءًا منه ومن روحه يكون حاضراً فى ما صنعه: النصل الذى انتهى من سَنّه والنسيج الذى شَكَّلَه، والسجادة التى جدلها. يصبح المنتج مشحوناً ومُحَمَّلاً بعصارة السنوات وخبرتها، وبتَمَرُّس الأيدى والأنامل، وكذلك بهفواتها. تَظَلّ الصناعات اليدوية فى الأحوال جميعها أكثر قيمة وأعلى ثمناً، بل هى تُقَدَّرُ بأضعاف ثمن الصناعات التى تنتجها الآلات.

يضفى العامل البشرى بريقاً على الأشياء الجامدة؛ ثمة شعور طريف ينتابنى حين أعرف إن ردائى أمسكه شخص آخر وأولاه عناية ورعاية واهتماماً كبيراً حتى أصبح على حاله. أن أعرف أن شخصاً قد صنع لى خصيصاً ما لا توجد منه نسخ مكررة لدى الآخرين، وأن أؤكد لنفسى أن ما أملكه هو بالتأكيد الأفضل والأجمل لأننى رأيته وتابعته فى مراحله المختلفة. أظن أن سعادة خاصة تتولد من تلك المعرفة.

•••

لا يعلم بعض حاملى المَسَنَّات عن الآلةِ التى يحملونها شيئاً سوى أنها وسيلة جيدة للتسول، ويبدو أن مرأى المَسَنّ اليدويّ يُلاقى حنيناً مِن المَارة فى الشوارع ومن الواقفين فى الشرفات، حنين يدفعهم للتعاطف والتفاعل بأكثر مما يفعله مرأى بائع المناديل الورقية مثلاً. أظنهم يشعرون بأن عبء حماية شيء قديم وحميم من الانقراض، إنما يقع على عاتقهم، فيتنازلون عن جنيه أو اثنين راضين ممتنين.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات