سعد مكاوى.. الكاتب المنسى - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 6:21 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سعد مكاوى.. الكاتب المنسى

نشر فى : الجمعة 17 يونيو 2016 - 8:20 م | آخر تحديث : الجمعة 17 يونيو 2016 - 8:20 م
أراجع من حين لآخر مكتبتى المبعثرة دائما، اللافظة لعشرات الكتب التى فاضت بها وثقلت عليها، ودائما وأنا أبحث عن كتابٍ ما أتعثر لصدفةٍ سعيدة بكتابٍ منسى أو روايةٍ مجهولة أو عملٍ قيم باعدت بينى وبينه سنوات العمر المزحومة أو المشاغل وتقلب الأحوال، وقد تكون مفاجأة فأتذكر كاتبا لم أقرأه منذ زمن أو أستعيد بهجة البحث عن أعماله ومعاودة قراءته حتى لو كان على حساب الروتين الضاغط أو الانشغالات الآنية.

من بين ما وجدته أخيرا فى مكتبتى طبعة قديمة متهالكة من الأعمال الكاملة للكاتب الكبير والقدير و(المظلوم أيضا) سعد مكاوى، صدرت عن الهيئة العامة للكتاب قبل ما يزيد على ربع القرن.

وتذكرت فورا النصوص الرائعة التى قرأتها لهذا الكاتب الراسخ، من مجموعاته القصصية الغزيرة ورواياته المهمة، كما استعدتُ بقدر كبير من الحنين الحماسة اللاهبة التى كانت تغمرنا ونحن طلاب بالجامعة، ندرس الأدب ونُشغف بقراءة النصوص القديمة والجديدة على السواء، واكتشافاتنا التى لا تنتهى لأسماء كتاب كانوا غائبين عن مرمى البصر والروح، وكنا نتبارى فى البحث والكشف عن ما لم نعرفه أو لم يقع تحت أيدينا فى ما سبق من عمر.

أذكر أن تلك الفترة (ما بين بداية المرحلة الثانوية ودخول الجامعة وحتى ما قبل إتمامها) كانت زاخرة بقراءة نصوص كتاب الخمسينيات والستينيات بمتعة، كنت أتعرف على أسماء فتحى غانم، وسعد مكاوى، وعبدالحكيم قاسم، ويحيى الطاهر عبدالله.. وآخرين، بشغف حقيقى وفضول كبير.

أذكر أن سعد مكاوى، تحديدا، قد استحوذ على مساحة كبيرة من اهتمامى، قراءة ونقدا، خصوصا بعد أن حفزنى على ذلك أمران: الأول؛ أننى وجدت أعماله الكاملة متاحة فى الهيئة العامة للكتاب (رغم رداءة الطبعة والأخطاء التى تخللتها فضلا عن تلف العديد من صفحات بعض الأجزاء).

والأمر الثانى؛ هو الاحترام الجم الذى كان يتحدث به بعض أساتذتى عن هذا الكاتب الكبير، ومنهم المرحوم الدكتور طه وادى (أحد أبرز مؤرخى الرواية والقصة فى تاريخنا الثقافى المعاصر)، وأيضا أستاذى وصديقى خيرى دومة الذى نال درجة الماجستير عن أطروحته فى أعمال سعد مكاوى.
كل هذا كان كفيلا بأن أقرأ نصوص مكاوى باهتمام وتركيز، وأن أدرك المكانة الكبيرة والمتميزة التى يحتلها (أو هكذا يجب أن يكون) فى خارطة المشهد الأدبى المعاصر، خصوصا أنه من الكتاب الذين استطاعوا ببراعة وجدارة أن يعبروا بصدق عن مرحلة مهمة وحيوية من أهم المراحل التى اجتازها الأدب القصصى والروائى فى مصر، فى القرن العشرين.

وسعد مكاوى، لمن لا يعرفه من الأجيال الجديدة، كاتب قدير؛ روائى وقاص ومترجم، من مواليد سنة 1916، بقرية الدلاتون مركز شبين الكوم (منوفية)، وهى ذات القرية التى ولد فيها عبدالرحمن الشرقاوى بعده بعدد من الأعوام، وجعلها مسرحا لروايته الشهيرة «الأرض». كان والد سعد مكاوى يعمل مدرسا للغة العربية، وكان يقضى شطرا من يومه فى تعليم تلاميذ إحدى مدارس المعلمين، اللغة العربية والدين، وبقية اليوم يقضيه مع إخوته فى فلاحة الأرض. لعب هذا الأب الفلاح ذو الثقافة التراثية أكبر الأثر فى ابنه «سعد»، فقد ورث عنه حب الأرض والتراث والاعتداد بالفلاح، كما أخذ عنه العناية الشديدة باللغة العربية، فضلا عن أنه حفر بداخله مجرى للروافد الدينية النقية، ومن هنا نجد فى أعماله عناية شديدة بالأناشيد الدينية والاقتباس من القرآن الكريم والحديث النبوى الشريف، والعناية ببعض القصص الدينى الشعبى الذى كان يردده بعض رجال الدين فى القرية.

سيقوم هذا الأب الأزهرى بإرسال ابنه إلى باريس، على نفقته الخاصة، لدراسة الطب، لكنه لم يستجب لهذه الدراسة وقرر أن يدرس الآداب فى السوربون ويظل مقيما فى باريس لمدة أربع سنوات (1936ــ1940)، يتقن خلالها الفرنسية لكنه لا يظفر بشهادة، فيعود من باريس دون إتمامه الدراسة (مثل توفيق الحكيم)، ثم يعمل فى الصحافة والكتابة الإبداعية حتى وفاته 1985.

من أشهر ما كتب سعد مكاوى؛ رواياته الثلاث «السائرون نياما»، «لا تسقنى وحدى»، و«الرجل والطريق»، (الروايات الثلاث نشرتها دار الشروق فى طبعة أنيقة جذابة ضمن سلسلتها المهمة «نصوص متميزة»؛ وهى واحدة من أهم السلاسل التى أصدرتها الدار وأخرجت ضمنها كتبا رائعة ونصوصا فريدة احتلت موقعها المتميز ضمن مدونة الإبداع المصرى والعربى المعاصر).

الروايات الثلاث من الأعمال التأسيسية التى لا ينبغى أن تفتقدها المكتبة العربية، طباعة ونشرا، لقيمتها وفنيتها العالية أولا، ولاحتياج كتاب القصة والرواية (خاصة من الشباب والمقبلين على كتابتها)، لقراءة مثل هذه النماذج العالية فى الكتابة السردية، ثانيا.

وأما «السائرون نياما»، فثمة إجماع على اعتبارها من بين أهم 100 رواية عربية فى القرن العشرين، وهى رواية تاريخية طبعت مرارا، وتحولت إلى مسلسل تليفزيونى، وإن ظل للرواية وهجها المتجدد واحتفاظها ببريق جمالياتها السردية الأصيلة حتى وقتنا هذا. ثم تأتى روايته البديعة «لا تسقنى وحدى» عن عالم التصوف ورحلة الوصول إلى الله. ثم روايته الرائعة «الرجل والطريق» (التى ما زالت غائبة عن أعين صناع الدراما وهى كنز فنى حقيقى أتصور أنها من أجمل الأعمال التى قرأتها عن عالم الريف وثقافته الشعبية).

ولسعد مكاوى رواية رابعة «منسية»، هى «الكرباج»؛ رواية تاريخية صدرت للمرة الأولى عن دار شهدى للطباعة عام 1984، ثم أعيد نشرها لمرة وحيدة ضمن أعماله الكاملة عن هيئة الكتاب، ومن حينها لم تطبع أى طبعة أخرى (فى ما أعلم) حتى وقتنا هذا.

ويُعد هذا النص من النصوص النادرة فى أدبنا المعاصر، لم يلق ما يستحقه من اهتمام وقراءة، طغت شهرة «السائرون نياما» عليها (وربما على سائر ما كتب سعد مكاوى، تماما مثلما طغت شهرة «قنديل أم هاشم» على بقية أعمال يحيى حقى).

عن هذا العمل «النادر» لسعد مكاوى، يقول خيرى دومة «يكتب سعد مكاوى وكأنه لا يكتب رواية تاريخية بل يستكمل قصصه الواقعية عن الحاضر المصرى، وخصوصا فى أوساط فلاحى القرية وأُجرائها وحرفيى المدينة ومشايخها وسادتها، صانعا صراعا لا يكاد ينتهى بين السادة والعبيد، وبين الأغنياء والفقراء، تدور أحداثها زمن الحملة الفرنسية وما عاناه أهل مصر من حملة بونابرت وما كان من وقائع بين المصريين ولاد البلد والفرنسيس».

وفى القصة القصيرة، المضمار الأصيل لسعد مكاوى، وشغفه الأول، فقد ترك فيها ما لا يقل عن خمس عشرة مجموعة قصصية، من أبرزها «الماء العكر»، «فى قهوة المجاذيب»، «مجمع الشياطين»، «الزمن الوغد»، و«الفجر يزور الحديقة».. وغيرها. وعد نقاد مجموعته «الماء العكر» (صدرت طبعتها الأولى سنة 1956، عن دار الفكر بالقاهرة)، واحدة من أهم عشر مجموعات قصصية صدرت فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى. ومعظم الكتب والدراسات التى تعرضت لفن القصة القصيرة فى مصر خلال هذه الفترة تعرضت لها وتحدثت عنها، ليس فقط لقيمتها الفنية ولغتها المميزة، بل أيضا لأنها اُعتبرت مجموعة رائدة لتيار مهم فى كتابة القصة القصيرة وهو تيار «الواقعية الرمزية» الذى يعد سعد مكاوى أحد رواده الكبار.
وللحديث بقية..