شال قطيفة - داليا شمس - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 10:55 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شال قطيفة

نشر فى : السبت 18 فبراير 2023 - 8:40 م | آخر تحديث : السبت 18 فبراير 2023 - 8:40 م

ما زال الشال معلقا خلف الباب، يحمل رائحتها، بعد أكثر من عشرين عاما على موتها. يُذكرنا كيف كانت تضع يدها على صدرها لتمسك بطرفه وتضمه إليها، مستغفرة، حامدة، شاكرة ربها. شال إسنا كان علامتها المميزة طيلة حياتها. تضعه على كتفها، تُغلف به جسدها فى الشتاء ليحميها من البرد، ونادرا ما تلفه على رأسها. هيئة ملائمة لشخصيتها الكتيمة، فلا أحد يعرف سرها ولا تفاصيل ما مرت به فى السابق قبل مجيئها إلى القاهرة للعمل والاستقرار بها. فقط شذرات من سيرتها، روتها فى ساعات الصفا.

كانت تصف منظر المنسوجات وهى تتغذى بالضوء على النيل فى إسنا، مدينتها الأصلية، وهى جالسة تغزل تحت عين الشمس. الشيلان تلمع وتضحك بألوانها المتنوعة، وبالمقابل تكون صامتة وقاتمة ليلا، هناك خلف القمر. معظم نساء عائلتها ذات الأصول الشامية البعيدة كن ينسجن الشيلان ببيوتهن لبيعها فى السوق. يمكثن ساعات أمام النول لإنتاج قطعة واحدة، ويُحكِمن خيوط القطن المتداخلة التى لا تقبل الخطأ فى التركيب حتى لا يفسد ما تم إنجازه. اشتغلن جميعا بـ«صناعة الستر» كما يقولون عنها، لأنها تستر ولا تُغنى. وحين كان يعجبها أحد الشيلان تختاره لنفسها، تغلف جسمها النحيل به فيكسبها أناقة طبيعية. تتنزه على النيل وهى لابسة إياه بالقرب من معبد«خنوم» الشهير، تلهو وتلعب بين أعمدته التى تعرف عددها عن غيب: 24 عمودا يدعمون سقف القاعة الرئيسية. كل الأطفال تقريبا كانوا على دراية مثلها بتاريخ المعبد الذى استمر بناؤه أربعمائة سنة، إذ بدأ تشييده فى عصر الفرعون تحتمس الثالث، ابن الأسرة الثامنة عشرة، ثم استخدم الحُكام اللاحقين من البطالمة والرومان أحجاره لإقامة آخر معبد على أرض مصر، بهدف التقرب إلى الشعب.
• • •

فى تلك الأيام كانت إسنا ــ ثالث عاصمة للصعيد بعد منف وطيبة ــ ميناء تجارى نشط، وظلت كذلك لقرون. أنشأ فيها أحد تجار القرن الثامن عشر وكالة خلدت اسمه «حسن الجداوى» لتخزين البضائع القادمة من السودان والصومال وكينيا. هذه العلاقات التجارية والتأثيرات الخارجية شكلت نسيج المدينة وطرازها المعمارى فى القرن التاسع عشر، فطبعت بيوتها بملامح الفنون الأوروبية وقتها، خاصة الشرفات والواجهات، وجاء إليها بعض التجار مثل أفراد عائلتها. وغالبا أتت «الشيلان» مع الوافدين، فهى تشبه كثيرا مثيلاتها الأندلسية التى تتزين بها النساء وهن يرقصن الفلامنكو والتى يطلق عليها أيضا «شيلان مانيلا» نسبة لميناء آخر، وهو مانيلا عاصمة الفلبين، التى كانت قديما مستعمرة إسبانية، تصل منها البضائع إلى إشبيلية.

معلومة أصل الشال الإسناوى القطيفة بالطبع غير مؤكدة، لكنه مجرد اجتهاد منها للربط بين تاريخه وحكايتها. هو أيضا من الوافدين. ارتحل من الصين، وتحديدا من مدينة كانتون، ليصل إلى إشبيلية عبر مانيلا فى منتصف القرن السادس عشر، وتغيرت معالمه ونقوشه، وأضيفت إليه بعد نحو مائتى عام «الشراشيب» الطويلة الدقيقة الصنع. على الأقل هذا جزئيا ما تخيلته، فقد كانت حكاءة بارعة على غرار أبناء مدينتها الذين تربوا على حواديت تمتزج فيها الأسطورة بالواقع.

كبُرت مثلا وهى تسمع عن خنوم، «الإله الفخرانى» الذى خلق الإنسان من طمى النيل وقت الفيضان على عجلة الفخار، وفقا للمعتقد المصرى القديم، وعن المسخ الذى يتغذى بالتهام النساء اللاتى يخالفن أوامر أزواجهن، وعن مغامرات أهل المدينة بما أنها كانت ملتقى لطرق القوافل الصحراوية.. تمتد بطول واجهتها على النيل، وفى وسطها بُنى المعبد على أرض واطئة، تنخفض تسعة أمتار عن مستوى البلدة. صاحبتنا تلف تلف بخيالها وترجع للقرن التاسع عشر، بداية وصول عائلتها، وربما الشيلان التقليدية، ووقت اكتشاف المعبد فى عصر محمد على. هذا المعبد الذى شهد أيام صباها، وغالبا قصة حبها الوحيدة التى لا تتحدث عنها سوى باقتضاب شديد فتلمع عيناها.
• • •

كانت تُسكت الأغنية التى تدور فى رأسها، ثم تشتعل الأغنية فى روحها من جديد وتشتعل معها الذكريات، فتدندن بها بصوت مسموع: «قُيضَ لى موعدُ، فى ظل شال، تُرى الخيال، سُكنى ومُستنجدُ». كلمات سعيد عقل التى تغنت بها فيروز صَاحبتها فى الخمسينيات. يمكن للحياة أن تكون جميلة أحيانا! الموسيقى توحى بتموج الشال المرخى على الشعر كما تصوره الشاعر، وخفة الفتاة التى ترتديه وتتحرك برشاقة فراشة تذكرها بنفسها وهى تنطلق كالسهم بين أعمدة المعبد. صوت البيانو ينثرها كحفنة نجوم فى السماء، ثم تعيد آلة الأوبوا المقطع نفسه ويتراجع البيانو فى الخلفية. تقاوم الشوق الذى يهجس به الشال، وتستعيد صورتها وهى تتباطأ فى مشيها ليلحق بها من خطف قلبها، وتعلو حرارة وجهها.

تطبق قبضتها على الشال، بعد مرور العديد من السنين أو فوات الأوان كما يقولون. لم ترغب فى التطرق إلى نهاية الحكاية، ولا الإفصاح عن سر فقدانها لأحد عينيها، ولا التصريح بهوية الشخص الذى تخلف عن الموعد ولم يظهر قط بعدها، ولا ظروف مجئيها إلى القاهرة. على امتداد السنوات، بدلت ألوان الشيلان، فبعد أن كانت تلبس الأحمر والزهرى الفاقع والأزرق صارت تلتف بالسواد، من باب الوقار.

أغنية فيروز عبرت عن ماضيها وشبابها الذى ولى، أما خير ما مثلها فى مراحلها الأخيرة، كما رددت دائما، كانت أغنية «رايحة فين يا حاجة، يا أم شال قطيفة، رايحة أزور النبى والكعبة الشريفة»، وهى من تراث الحج، فقد كانت تقول مازحة إنها كُتبت خصيصا لها، إذ ذهبت لزيارة بيت الله سبع مرات وكانت تتوق إلى المزيد من الزيارات والونس فى الروضة المباركة، مكانها المفضل الذى سالت فيه دموعها غزيرة، ناجت فيه ربها بحرية كما اعتادت فى السابق الفضفضة مع النيل، كاتم أسرارها الأول خلال سنوات الصبا. عجيب أن تلخص أغنيتان حياتك على هذا النحو، من شال فيروز إلى شال الحاجة القطيفة، المهم أن ما بينهما مر بسلام.

التعليقات