الإنسان الأوكراني يكتشف ذاته - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 7:58 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الإنسان الأوكراني يكتشف ذاته

نشر فى : الجمعة 18 مارس 2022 - 8:35 م | آخر تحديث : الجمعة 18 مارس 2022 - 8:35 م

على مدى التاريخ يبرز قادة يصنعون معجزات أو يقفون فى الثغر يدافعون عن أوطانهم أو مبادئهم وظهورهم عارية، وهم لا يملكون جيشا عرمرما وينتصرون أو يموتون فى أرض المعركة، وهكذا فى الحالتين تُمجدهم شُعوبهم ويُصبحون أيقونة للشعوب بل ولجميع البشر على مدى التاريخ، ودليلا لكل من يريد أن يحافظ على مبادئه وقيمه ووطنه. والغريب أنه فى كل مرة يحدث ذلك يكون هؤلاء ــ فى ذلك الوقت ــ غير معروفين للناس عامة، وليس لهم تاريخ بطولات سابقة، بل كان الناس لا يعيرونهم اهتماما خاصة لو كانوا من الذين يحترفون الفن التمثيلى مثل زيلنيسكى أو أى مهن أخرى، لكن عندما تحين الساعة نجد هؤلاء البسطاء ينتفضون فى وجه رئيس أو ملك أو إمبراطور فيحرجونه، أو قائد يملك جيشا عرمرما فيربكونه. وهنا فقط تُكتب أسماؤهم فى التاريخ بعد أن كانوا مجهولين.

ومن الغريب أن هؤلاء الأبطال لم يكونوا يظنون فى أنفسهم أنهم بهذه القوة والشجاعة، لكن الموقف جعلهم يكتشفون أنفسهم وذلك عندما دعى الداعى للجهاد، أو للدفاع عن الأهل والبلد والوطن. والفارق بين مثل هذا الرجل والآخرين نظيره هى شجاعته وبراعته وإدارته ليرسم صورته، ويكتب قصته على جدران التاريخ للأبد. بالطبع هذه القفزة تحتاج إلى شجاعة وثقة بالنفس، حيث تتجسد أمام عينى إنسان (رجلا كان أم امرأة) رسالة ورؤيا، وكأن هناك فى السماء من يناديه أن ينفض عن جسده ونفسه وروحه ما يعرقله من ركوب الخطر لينقذ أهله ووطنه من الغزو، أو الديكتاتورية، أو الانسحاق.

• • •

فى عام ١٩٧٨م ولد زيلنيسكى فى أسرة فقيرة، احترف التمثيل وكان ممثلا كوميديا، وشب كمواطن روسى واحترف الفن، لكنه ورغم ذلك انتُخب كرئيس لأوكرانيا من عام ٢٠١٩م حتى الآن، وعمره الآن ٤٤ سنة، وهو الرئيس السادس لأوكرانيا. 

عندما ولد زيلنيسكى كان بوتين فى السادسة والعشرين من عمره، تربى بوتين فى سلاح المخابرات الروسى الـ«كى جى بى» وقد تميز بالذكاء الحاد، عاش باسم مستعار، كان كالحواة يُتقن السياسة، وقد تثقف من مصادر عدة ومتنوعة، كان فخورا بوطنه الاتحاد السوفيتى، لم يكن يتوقع أن هذا الاتحاد السوفيتى سوف ينهار وينقسم إلى جمهوريات صغيرة، لكن بسقوط الاتحاد السوفيتى بدأت الجمهوريات الخاضعة للاتحاد السوفيتى بتغيير هوية السوفيت والعودة إلى هوياتها الأصلية، وبالطبع معظمهم كان يعشق الغرب الإنجليزى والأمريكى.

عندما انفصلت أوكرانيا عن الاتحاد السوفيتى كان زيلنيسكى ابن ثلاثة عشر عاما، واكتشف أن هواياته وهدفه فى الحياة أن يصير ممثلا كوميديا، وهو كان من النوع الذى يُتقن التقليد، تقليد الرؤساء والفنانين، والسياسيين... إلخ مثل بعض الكوميديين المصريين لبلبة وسيد الملاح.. إلخ.

من الأحداث التى رسمت خطوطها بعمق عند زيلنيسكى سقوط جدار برلين، لم يهتم زيلنيسكى بكل هذه الأحداث بل لم يكن سياسيا مفوها، ولم يكن له اتجاه حزبى... إلخ، لكنه كان إنسانا ذكيا يراقب الأحداث دون أن يشارك فيها، وقد ركز فى تلك الأثناء على هوايته: (التمثيل الكوميدى)، ومن الغريب أنه اختار دور المُهرج وأبدع فيه، وكان سببا فى شهرته. وشاب مثل هذا لم يكن يحلم بدخول عالم السياسة والسياسيين، وبالتالى لم يرتب لنفسه أن يكون زعيما سياسيا، لكن القدر كان له رأى آخر، فاختاره التاريخ لكى يكون قائدا لبلاده، ورغم سعادته بذلك، إلا أنه لم يكن يتوقع أن يصطدم بالاتحاد السوفيتى أو أمريكا أو أوروبا. كان حكم دولته الصغيرة هو كل المنى، لكن القدر أراد أن يضعه وجها لوجه مع رئيس روسيا، بوتين، المعروف بخلفيته وقدراته السياسية. وهكذا قفز اسم زيلنيسكى إلى معظم، إن لم يكن كل، بلدان العالم. والمواجهة تُذكرك – عزيزى القارئ – بمواجهة النبى داوود وهو صبى صغير أمام جليات الجبار، وقد استطاع داوود أن يهزم جليات. لقد استدعت الأحداث هذين الرجلين (بوتين بكل قدراته السياسية والعسكرية وزيلنيسكى الممثل وقدراته السياسية والعسكرية المحدودة) فى مواجهة دامية عنيفة، والنجاح والفشل لن يصيبهما كأفراد، لكنه سيصيب بلدانهم وشعوبهم.

• • •

عزيزى القارئ لو تصورت معى أن ممثلا كوميديا مصريا ألقته الأقدار فى موقف كهذا كيف سيكون تصرفه؟ هل سيعتذر أم سيأخذ الأمر بشكل جاد كرجل وطنى؟! لقد كان للكثير من الممثلين المصريين مواقف وطنية رائعة. تذكرت أنور السادات عندما كان شابا واحترف السياسة واتهم فى حادثة قتل سياسى معروفة كما اشتغل كسائق سيارة نقل... إلخ، حتى وصل إلى أن يكون رئيسا للجمهورية، ولقد كنا كثيرا ما نتذكره وهو يخطب بروح الممثل ونضحك معلقين على أسلوبه وحركاته. وفى زيارته للقدس كان الناس لا يُصدقون الحدث ويعتبرونه فاصلا تمثيليا لأنهم كانوا يستبعدون تماما عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل.

• • •

وبالعودة لزيلنيسكى لم يكن أحد يتصور مبارزة بينه وبين بوتين تكون نتيجتها تحطيم بلدان وسقوط حكام واهتزاز السلام العالمى. فعندما كان بوتين يحاول عودة الروح لروسيا فى محاولة لإنقاذها من الانهيار الكامل، كان زيلنيسكى يُنتج تمثيليات كوميدية مع فريق يدربه بنفسه، وقد أطلق عليه اسم «كفارتال ٩٥». لقد كان بوتين يصارع لإعادة قوى روسيا وعنفوانها، بينما زيلنيسكى لا يحلم بأكثر من الانتقال من المسرح الذى يعرض عليه فنونه إلى شاشة التلفزيون. وبينما كان بوتين يشعر أن روح الأمة استدعته وكلفته بمهمة تاريخية مقدسة، كان زيلنيسكى يحاول أن يزيد عدد المشاهدين لبرامجه.

عندما صار زيلنيسكى رئيسا وقام بوتين بغزو أوكرانيا، وضع معظم الناس أيديهم على قلوبهم، وكان التصور أن بوتين لن يتأخر فى دخول وسقوط أوكرانيا أكثر من يوم أو يوم ونصف، لكن المفاجأة أن بوتين بدأ يغرق وينهار. لقد ظن الناس أنه بمجرد تلويح بوتين سوف تتداعى أوكرانيا بين يديه طالبة الصلح والسماحة، لكن كل ذلك لم يحدث، فقد صمدت أوكرانيا فى مواجهة روسيا وبوتين، وهكذا أوقع بوتين نفسه وبلاده فى أكبر الأزمات تعقيدا بعد الحرب العالمية الثانية. لقد ظن كثيرون أن أوكرانيا لن تصمد ليوم واحد أو نصف يوم، لكن المفاجأة كانت وقوف زيلنيسكى الذى لم يستول الخوف عليه من الرئيس بوتين ولا من روسيا. لقد كان المتوقع أن يهرب زيلنيسكى فى ثياب امرأة ليلا، ويترك الجمل بما حمل، ويأتى شخص ما ويوقع على وثيقة استسلام لروسيا وبوتين.

لقد ارتفعت شعبية زيلنيسكى إلى عنان السماء، بينما سقط بوتين فى بئر عميقة يستدعى منه جهدا ضخما ليصعد مرة أخرى ويقدم ذاته.

إنها الكوميديا الإلهية لدانتى، أو سخرية القدر، والدرس الذى يجب أن ندركه جميعا جيدا هو أن يعرف كل شخص مكانته وقدراته، وهكذا يمكن أن يحقق السعادة له ولأسرته بل ولشعبه وجيشه فى حالة كونه رئيسا. 

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات