في بيت فؤاد زكريا - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 3:37 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

في بيت فؤاد زكريا

نشر فى : السبت 18 مارس 2023 - 9:00 م | آخر تحديث : السبت 18 مارس 2023 - 9:00 م
(1 )
لا أحب أن أفوت ذكرى رحيل الكاتب والمفكر وأستاذ الفلسفة الراحل الدكتور فؤاد زكريا (1927ــ2010) إحدى منارات العقل والتفكير العلمى والنقدى فى ثقافتنا العربية الحديثة، من دون استدعاء بعض من فيض معارفه وأفكاره الحرة الجريئة.
فى الذكرى الثالثة عشرة لرحيل هذا المفكر الكبير، أستعيد بعض ذكريات الحوار الأخير الذى أجريتُه معه فى مثل هذه الأيام قبل ثلاثة عشر عاما (وقبل ثلاثة أسابيع بالضبط من رحيله)، ونُشر حينها على صفحة كاملة بإحدى الصحف العربية الكبرى.
وليس الغرض هنا سرد ذكريات مجردة، بمعزل عن سياق إعادة اكتشافنا لواحدٍ من تجليات فؤاد زكريا الفكرية النقدية، والتى يمكن اعتبارها وثيقة فكرية وتنويرية، تستحق التنويه والتأمل واستخلاص الأفكار وطرح الأسئلة التى لطالما دعا إليها المفكر الراحل.

(2 )
بدأت القصة حينما تواصلتُ معه هاتفيا مساء ليلة شتوية باردة، أستأذنه فى إجراء حوار مطول، وجاءنى صوته بعيدا واهنا ضعيفا، لكنه ما زال محتفظا بشخصيته الصارمة، وردوده المقتضبة المركزة، ودار الحوار التالى:
ــ مساء الخير يا دكتور فؤاد.. أنا... أطمح لإجراء حوار مطول معكم عن أزماتنا الفكرية المعاصرة ونقاط أخرى.
ــ أوافق. بشروط!
ــ تفضل يا دكتور..
ــ أولا: تأتينى بخطابٍ ممهور من رئيس تحرير الجريدة التى سينشر فيها الحوار، يطلب منى فيها ذلك. ثانيا: يتعهد فى الخطاب بأن يرسل لى ثلاث نسخ ورقية من العدد الذى سينشر فيه الحوار. ثالثا: الإقرار بحقى فى مقاضاتكم حال نشر الحوار بصورة تخالف ما قلته! وأخيرا ألا تزيد مدة المقابلة على ثلاثين دقيقة لا أكثر!
ــ (شُدِهت ودهشت وبهتُّ.. واستغرقت لحظاتٍ للتغلب على وقع ما سمعت).. وكان الرد سريعا:
حاضر يا دكتور.. أمهلنى بعض الوقت، وسأنفذ ما طلبت!
وكانت هذه المرة الأولى (والأخيرة) التى أتعرض فيها لمثل هذا الموقف فى حياتى المهنية كلها، أو أن يطلب منى أحد ممن حاورتهم، وهم كثر، ويتوزعون بامتداد الوطن العربى كله من خليجه إلى محيطه، مثل ما طلب الدكتور فؤاد زكريا!
المهم أننى نجحت فى تلبية كل ما طلب، وحصلت من مكتب الجريدة فى القاهرة على الخطاب الممهور بتوقيع مديره (الممثل لرئيس التحرير فى القاهرة)، وأكدت له أن الحوار سيكون مسجلا على تليفونى الخاص بصيغة (MP3) وأننى سأتحرّى الدقة والأمانة الكاملة فى كل ما سينشر على لسانه.
ووافق الدكتور فؤاد على إجراء الحوار، وضرب لى موعدا مساء الأحد الموافق 7 فبراير 2010 (إذا لم تخنى الذاكرة) فى منزله الكائن بشارع محمد مندور بمدينة نصر (أحد أحياء شرق القاهرة)، وكان صوته ينم عن فرحةٍ مكتومة أو حاول أن يخفيها بإحساسه أننى تغلبت على شروطه «التعجيزية»!

(3 )
ذهبت إليه فى الموعد المحدد، وجدته متدثرا بملابس شتوية ثقيلة يجلس على كرسيه المتحرك فى هدوء وسكون، المنزل بأكمله تتوزع عليه سماعات صوت تصدر منها أنغام موسيقى كلاسيكية تميزها الأذن المدربة أو العاشقة لهذا اللون من الموسيقى (غرام فؤاد زكريا بالموسيقى الكلاسيكية وكتاباته عنها مشهور ومعلوم).
وبعد عبارات الترحيب والاستقبال أخرجت من حقيبتى الأوراق التى سجلت فيها النقاط التى سأسأله عنها.
وقبل ذهابى إلى فؤاد زكريا حذرنى أصدقاء كثيرون من حدة طبعه وغضبه السريع، وبعضهم قال لى إنه إذا لم يقتنع بجديتى وبجدية وعمق الأسئلة التى أطرحها عليه، فإنه من الممكن ألا يكمل الحوار، بل ربما يطردنى من البيت شر طردة! أما إذا اقتنع بأنك جاد وعلى مستوى الحوار، فإنه سيستجيب وسيرد على أسئلتك!
وبدأ الحوار، وسألت فؤاد زكريا عن رأيه فى أزماتنا الفكرية والعقلية، وسألته عن تقييمه وتقديره للمشروعات الفكرية التى أنجزها عدد من كبار المفكرين شرقا وغربا لمقاربة سؤال النهضة والتخلف، وعلاقتنا بتراثنا وعلاقتنا بالحضارة والثقافة الغربية.. إلخ.
كان فؤاد زكريا يرى أن العقل العربى يعانى من مشكلات مزمنة، منها الانسياق وراء الوهم والخرافة، والخلط بين ما هو علمى وغير علمى، والبعد عن مواجهة الحقائق فى طبيعتها المحايدة. وكان يرى أن التحليل الدقيق للمشكلة هو أن استمرار أو سيادة نمط واحد محدد من أنماط التفكير أو شيوع التفكير اللا عقلانى وغياب المنطق وهيمنة الخرافة، كل هذا كان يؤدى فى النهاية إلى تكريس وتثبيت الأوضاع الصعبة التى تعانى منها الشعوب العربية، ولذا كان يقول: «إن العقول لا تتغير من فراغ، فلا معنى لدعوة تغيير طرق التفكير عند الناس أولا، ثم بعد ذلك تغيير الظروف والأوضاع، لأن الدعوة بهذا الشكل دعوة معكوسة، لأن العقول لا يُعاد تشكيلها بقرار فوقى أو خطة طويلة المدى، العقول لا تبدأ فى التغيير إلا بعد أن تتغير الأوضاع من حولها».

(4 )
ورغم كبر سنه، وافتقاد جزءٍ كبير من طاقته وعنفوانه الصوتى الذى اشتهر به، فقد تدفق فى الإجابة عن أسئلتى بكامل حيويته وألقه وتركيزه وومضاته العقلية المذهلة، كان دقيقا وحاسما ومحددا.. استشعرتُ خلال الساعة التى أمضيتها فى صحبته (وكان مقدرا لها أن تستغرق ثلاثين دقيقة فقط) أن مشاعره إزائى مختلطة، فيها فرح ممزوج بشجن، وألم ممزوج باستبشار، وأسى يشبه تغريدة البجعة الأخيرة التى تصدر أنغاما وألحانا يظنها السامع بهجة خالصة فيما هى تودع الحياة!
نُشر الحوار على صفحة كاملة، آنذاك، يوم 18 من الشهر ذاته، دون أن تتدخل فيه يد المحرر «الديسك» بتعديل أو حذف، من العنوان الرئيس، والمدخل والتعريف، ثم متن الحوار كاملا كما صغته سؤالا وجوابا وصولا إلى نقطة نهاية السطر الأخير.
بعد واحد وعشرين يوما من نشر الحوار سيودع فؤاد زكريا الحياة بعد أن ترك لنا وللأجيال القادمة، ولعشرات السنين، ما يستحق أن نقرأه ونستعين به على مواصلة السعى للبحث عن عصر تنوير عربى «حقيقى».