التربية ما بين الفِطرة والعِلم.. «أساليب التربية وعواقبها» - هنا أبوالغار - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 10:20 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التربية ما بين الفِطرة والعِلم.. «أساليب التربية وعواقبها»

نشر فى : الخميس 18 أكتوبر 2018 - 9:55 م | آخر تحديث : السبت 20 أكتوبر 2018 - 1:44 م

قد يكون قرار الإنجاب من أهم قرارات الزوجين، والأغلب أن الطفلة أو الطفل من قبل الولادة سرعان ما يصبحون محور اهتمام الأبوين، فالمسئولية تجاههم وأحلامنا لهم وخوفنا عليهم يملأ العقل والقلب. وبالرغم من أن لحظة الحمل قد ننتظرها سنوات فإننا نفاجأ بعد الولادة بقلة معرفتنا وخبرتنا عندما نواجَه بموقف من المواقف المحيرة مع أبنائنا فنلجأ إلى الفطرة ونستحضر أبوينا فى الموقف نفسه ليلهمونا حسن التصرف، وهذا ما يفعله معظم الأزواج حول العالم مع الطفل الأول ثم نعيد تطبيقه إذا نجح أو نغيره إذا فشل مع من يليه من أطفال.
خبرة كل منا فى التريبة فريدة وهى خليط من ثقافتنا وتعليمنا وصفاتنا وميولنا وعقيدتنا نحن وأزواجنا، وبالتالى هناك عوامل لا نهائية تحدد طريقة التربية هذه وتجعلها فريدة لتزيد المجتمع ثراء. وبالرغم من هذا التنوع وَجَدَت إحدى أهم الباحثات فى علوم التربية Diane Baumrind فى الستينيات أن نقاط التلاقى بين طرق التربية فى البيئات المختلفة كثيرة بالرغم من عفوية تطبيقها، وقررت دراسة آلاف الأسر من بيئات جغرافية واقتصادية وثقافية مختلفة بُناء على أربع معايير هى: (أ) الطريقة التى تتبعها الأسرة فى التهذيب أو فرض الانضباط (Discipline)، (ب) عمق ومستوى التواصل بين الأب/ الأم وطفلتهم (Communication)، (ج) قدرة كل منهما على ملأ احتياج الطفلة النفسى وملأ وعائها العاطفى (Nurturing)، (د) توقعات كلٍ منهما من الطفلة (Expectations). درست آلاف الأسر وقيمت هذه النقاط الأربع ثم خرجت بأربعة أنماط للتربية تقع تحت إحداها جميع الأسر، ولأن كل شخص وكل أسرة فريدة فالجميع يستخدم خليطا من الأساليب الأربعة بدرجات مختلفة تتناسب مع مفهومهم عن التربية والظرف الذى تستخدم فيه. وقد تبين أن الأسلوب التربوى الذى نختاره (غالبا بعقلنا الباطن) يحدد قدرات وصفات هامة فى أبنائنا فى سن المراهقة مثل قدرتهم على تنظيم وقتهم واتباع نظام يومى فيه كفاءة إنتاجية (سواء أكاديمية أو مهنية) كما يؤثر على قدراتهم الاجتماعية ورضاهم عن أنفسهم وثقتهم فيها ويحدد سقف طموحاتهم وإيمانهم بقدرتهم على تحقيقها. كلها أمور تنعكس على كل مراحل الحياة سواء المدرسة أو الجامعة أو العمل أو حياتهم الخاصة.

***
أول نمط من أنماط التربية هو: أسلوب التربية الاستبدادى: Authoritarian هؤلاء الآباء يفرضون الانضباط (Discipline) بشكل حازم وبأقل قدر من المفاوضات ويستخدمون العقاب لتنفيذه فى أحيان كثيرة، التواصل بينهم وبين أبنائهم يتم فى اتجاه واحد فى شكل توجيهات أو أوامر من الأب/ الأم إلى الطفل حيث لا يُستَثمَر وقت فى شرح القواعد العامة للبيت، حيث إن الطفل مطلوب أن ينفذها لأن «أنا قلت كده» وليس هناك احتياج ولا وقت لاستخدام القناعة والمنطق كحافز لتنفيذها. هؤلاء الآباء عادة لا يضعون ثِقَلا على العطاء العاطفى لأنهم يعبرون عن حبهم بتوفير احتياجات الطفل ومساعدته فى الدراسة وتوصيله إلى تمارينه.. إلخ، وهو ما يرون أنه كافٍ لعلاقتهم بأبنائهم. توقعاتهم من أطفالهم عالية وليست بالضرورة واقعية من حيث قدرات الأبناء أو ميولهم. كثير من هؤلاء الأطفال يعانون من عدم القدرة على حل مشكلاتهم أو تنظيم وقتهم لأنهم لم يُسمَح لهم أبدا بتحمل هذه المسئوليات، عادةً ما يفتقدون الثقة بالنفس وبقدراتهم لأن الثقة تأتى من التجربة والخوف من ارتكاب خطأ يمنع هذا كما أنه يُكسِبهُم مهارة الكذب لتفادى العقاب واللوم ويجعلهم أكثر عنفا وقسوة كبالغين.
التربية المتساهلة: Permissive هؤلاء الآباء يضعون الطفل فى كرسى القيادة فيسمحون لأبنائهم بعمل تقريبا أى شيء دون توجيهات أو نصائح تُذكَر، القواعد فى هذه البيوت قليلة والأطفال فى معظم الأحيان يحلون مشاكلهم بأنفسهم، قنوات التواصل بينهم وبين الطفلة عادة ما تكون مفتوحة وجيدة لكن قلما فى النصح أو التوجيه. هم عادة آباء دافئون يقدمون الكثير من الحب والعاطفة لكن فى إطار «الصداقة» وليس علاقة الأم/ الأب بابنته، وتوقعاتهم من أبنائهم قليلة وغير مُحَفِزَة لبناء وبلورة قدراتها. فالحياة فى منزل بدون قواعد أو نظام كالحياة فى بلد ليس لها قانون ولا شرطة تطبقه، فالطفلة تفتقد الإحساس بالأمان، كما تفتقد مصدرا للنصيحة أو التحذير من عواقب الخيارات السيئة، وبالرغم من أن هذا قد يبدو مريحا لها فإنه يخلق منها مراهقة قلقة، قليلة الطموح، قليلة الثقة بقدراتها التى لم يُسمَح لها أن تختبرها أو تنميها، عادة ما يعانى هؤلاء دراسيا، كما يعانون فى مشوارهم المهنى حيث يفتقدون الالتزام بقواعد العمل وعدم القدرة على إنجاز مهمة حتى النهاية، كما يعانون صحيا فيما يخص الأمراض المرتبطة بالتغذية أو النظافة الشخصية مثل السمنة أو تسوس الأسنان؛ لأن الوقاية منها جزء من القواعد التى نربى عليها الأبناء.
التربية غير المتفاعلة أو المهملة: Noninvolved أو Neglectful، هؤلاء الآباء والأمهات يعطون أبناءهم مساحة حرية كبيرة دون أى تدخل بعضهم عن قصد لإيمانهم بطريقة التربية هذه والأغلبية بدون قرار واع بسبب عدم إعطاء التربية أولوية أو بسبب مرض نفسى أو جسدى عند أحد الأبوين يحول دون ذلك. فهم لا يستثمرون فى ضبط البيت من حيث مواعيد النوم والأكل وقواعد النظام المنزلى والنظافة الشخصية.. إلخ، التواصل محدود بينهم وبين الطفلة والعطاء العاطفى قليل أو منعدم. ليس لدى هؤلاء الآباء توقعات من أبنائهم أكاديمية أو سلوكية. هؤلاء الأطفال يكبرون ليصبحوا قليلى الثقة بالنفس، وكثير منهم يعانون من الاكتئاب فى سن المراهقة، ويجدون مصاعب فى علاقاتهم مع أقرانهم.
أسلوب التربية الموثوق والمعتمد: Authoritative, Reliable، وهو الأسلوب الأكثر نجاحا فى تربية طفل ومراهق متزن، هؤلاء الآباء يضعون قواعد انضباط للمنزل واضحة تطبق بشكل منتظم بدون كسرها إلا فيما ندر، هم يشرحون هذه القواعد وأهميتها ويوضحون عواقب و(ليس عقابا) عدم تنفيذها لأعضاء الأسرة بشكل هادئ وحازم ومتكرر، فمثلا «إذا لم تلبس الآن سنتأخر على التدريب وسيفوتك جزء منه (عاقبة ونتيجة حقيقية) لا نقول «إذا لم تلبس الآن لن آخذك إلى التدريب» (فهذا عقاب). عندما يخطئ الطفل أو المراهق يناقشون الخطأ معه على انفراد بشكل عملى وغير جارح ويشرحون نتائج هذا الخطأ ومخاطرة بشكل منطقى (كما سبق أن ذكرنا) ثم يتركون الطفل يتحمل نتائج الخطأ حتى لو كانت مؤلمة له ولنا (مثلا: إذا لم يجهز فى الموعد ولم يذهب إلى التدريب وبالتالى يحرمه الكابتن من البطولة القادمة، فلا يجب أن نتدخل فى قرار الكابتن ومن المهم أن نشرح له مرات ومرات بهدوء ما حدث، لأن شرحه فى إطار عقابى يضع الطفل مباشرة فى موقع الدفاع فيبدأ فى لومنا أو لوم الكابتن ولا يتعلم من الدرس). هؤلاء الآباء يستثمرون فى التواصل الجيد والدائم مع الطفل بلُغَة منطوقة (حوار يومى شخصى مع كل طفل على حدة من ربع إلى نصف الساعة نعطيه فيه تركيزنا الكامل بدون أى تشتيت) ولُغَة جسدية (أحضان و قبلات ودفء) تتناسب مع احتياجات سنِّه وشخصيته فيملآن وعاءه العاطفى. سقف توقعاتهم من أبنائهم عال لكنهم يفهمون قدرات الطفلة بحكم قربهم منها ويُشركونها فى رسم هذه الأهداف، وبالتالى تكون قابلة للتحقيق فى معظم الأحوال. هؤلاء الأطفال يكبرون ليصبحوا مراهقين ثم بالغين أكثر قدرة على تحمل المسئولية وتنظيم الوقت، حيث إنهم يتدربون على هذا منذ الصغر، وهم أقل عرضة لوضع أنفسهم فى طريق المخاطر حيث إنهم يفهمون جيدا أن لكل قرار نتائجه، كمراهقين وبالغين يتمتعون بالثقة بالنفس وبقدراتهم.
أبناؤنا يستحقون بيتا به نظام، وأُذُن تصغى لهم بتركيز كامل عندما يحتاجون لهذا، يستحقون أن نُشرِكَهم فى القرارات الخاصة بِهِم وأن نجعلهم يتحملون مسئولية تنفيذ هذه القرارات مع الاحتفاظ بحقِهِم الإنسانى فى الخطأ ليتعلموا منه بدون جَلد للذات أو رعب من عقوبة.

أستاذ طب الأطفال بجامعة القاهرة

هنا أبوالغار أستاذ طب الأطفال بجامعة القاهرة
التعليقات