الطائرات أحلامٌ جميلة - منى أبو النصر - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 4:29 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الطائرات أحلامٌ جميلة

نشر فى : الخميس 22 يونيو 2023 - 11:20 ص | آخر تحديث : الخميس 22 يونيو 2023 - 11:20 ص

ولأن الأفلام "أحلام جميلة" كما يؤمن بها مُخرج "الأنيمي" الأيقوني هاياو ميازاكي، تظّل أفلامه نافذة تُطل على البراءة، والفلسفة، والشِعرية، فأبطاله يذكروك بأنفسهم دون عناء، حتى في مثل تلك الأيام المُحملّة بالأتربة والجو العاصف الذي يُربك السماء والأرض، كما ملحمة "جيرو" بطل فيلم ميازاكي "الرياح تعلو" Wind rises، الفيلم الذي لم يُغادره عصف الرياح من مشاهده الأولى وحتى نهايته، مصحوب ببيت شِعر الفرنسي بول فاليري: "الرياح تعلو، فلنحاول أن نعيش".

استلهم ميازاكي قصة فيلمه من سيرة "جيرو هوريكوشي"، مُصمم الطائرة المقاتلة "ميتسوبيشي زيرو" التي استخدمتها اليابان في الحرب العالمية الثانية، مستعينًا بقصة قصيرة لتاتسو هوري(1937) بعنوان "علّت الرياح"، وأطلق فيلمه على أجنحة التخييل طارحًا من خلاله سردية بارعة حول الحياة والموت وتضليل الأحلام، برسوم "أنيمي" مُتحركة خلابّة، تفيض أصوات أبطالها بإنسانية الضعف والتأمل.

تظهر علامات النبوغ المُبكرة على "جيرو" الطفل، ووعي مُبكر بأحلامه، يرتدي نظارات النظر المُقعرّة، إلا أن ضعف بصره لم يسلبه جسارة الأحلام، تلك التي كانت تتجسد أمامه وتلوح في السماء، يصعد فوق سطح بيته ليرى النجوم وقد تحوّلت طائرات، ويوصل ليله بسماء النهار ليستكمل أحلام يقظته، حيث الطيور والسُحب تتشكلان بكل رهافة فتصير هياكل طائرات.

أما ضيف أحلام يقظته ومنامه الرئيسي فكان "كابروني"، مثله الأعلى مُصمم الطائرات الإيطالي الشهير، فيصير عرابّه الروحي، الذي ألهمه بأن يصير مُهندس طائرات، فيستيقظ جيرو صباح يوم، بقرار دراسة هندسة الطيران، وبتصالح مُطلق مع النفس يقرر أنه إذا كان ضعف نظره يعيقه عن قيادة طائرة، فسيصنعها هو إذًا، وإذا كانت الطائرات أحلامًا جميلة، فتلك الأحلام تحتاج إلى "مهندسين" لتحويلها إلى حقيقة، كما يُلهمه عرّاب أحلامه "كابروني".

فيؤسس الفيلم بُعدًا فلسفيًا لمسار دراسة "جيرو هوريكوشي" لهندسة الطيران، التي يبرع بها، حتى يصير من أوائل المُرشحين لدراسة الطيران في ألمانيا، وهناك تُفجعه الفجوة العلمية والهندسة والتقنية التي تفصل بين بلاده "الفقير"، في هذا الوقت، وبين الآلة الألمانية الساحقة.

يلجأ "جيرو" لعرّابه "كابروني" يشكو له إحباطه من الوصول بتصميماته الفذّة إلى مستوى التطبيق بسبب فقر تكنولوجيا بلاده، فيُعضّد كابروني لديه من قيمة الإلهام والابتكار اللذين يأتيان في المقدمة دائمًا، ثم تلهث وراءهما التكنولوجيا، إلا أن جيرو الذي يحلم بُصنع "طائرات جميلة وحسب"، يجد أن الطائرة التي يبتكرها أصبحت قيد اهتمام رسمي من سلطات بلاده لاستخدامها في الحرب.

الحوارات الفانتازية بين "كابروني" و"جيرو" لم تكن المستوى التخييلي الوحيد في الفيلم، وإن كانت من أجمل مشاهده، التي لم تنقطع منذ طفولة جيرو، وحتى ما بعد تحققه وإطلاقه تصميم طائرته التي كانت مداد بلاده في الحرب العالمية الثانية.

قال ميازاكي إنه استلهم هذا الفيلم من جملة عابرة لجيرو قال بها : "لقد كان كل ما أردت عمله، هو أن أصنع شيئاً جميلًا" فكتب ميازاكي هذا الفيلم وأهداه إلى روح "جيرو هوريكوشي" في رثاء للأحلام النقيّة التي انتهت كآلة حرب، في وقت لم يكن فيه لجيرو اختيار والعالم من حوله يستعر بحُمى الحرب والتصفيات.

ولا يمكن مشاهدة هذا الفيلم بمعزل عن طفولة كاتبه ومخرجه هاياو ميازاكي نفسه، الذي عاش طفولته تحت قصف الطائرات، خلال الحرب التي خاضتها بلاده مع الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية، فقد تعّرف على طفولته وهو يمسك قلمًا ويرسّم طائرات على الورق، وزاد هوسه بها بسبب عمل والده في مجال تصميم الطائرات، ما جعلها واحدة من أبرز أيقوناته الفنية التي ظهرت في معظم أفلامه الأنيمي، حتى كان لها نصيب الأسد من السرد في فيلمه الذي أهداه لأحلام "جيرو" وطائراته الجميلة، التي مسختها الحرب.

عُرض هذا الفيلم منذ عشر سنوات، فهو من إنتاج 2013، وفي هذا الوقت كان ميازاكي قد أعلن أنه سيكون فيلمه الأخير "الاعتزالي"، وهو الأمر الذي أثار ضجة واسعة في هذا الوقت، بعد سلسلة من الأفلام المدهشة التي تركها ميازاكي، وكذلك لحجم تأثيره في صناعة تُدر مليارات الدولارات، فهو مؤسس "ستوديو غيبلي" الذي حقق أرقامًا قياسية حول العالم، ووضع "الأنيمي" الياباني على خريطة السينما المتحركة العالمية، وكان أي فيلم يحمل اسمه كفيلًا أن يضعه على قائمة ترشيحات الجوائز الكبرى كالأوسكار، كما سبق وترشح لها كل من فيلميه "Wind rises"، و" Howl’s moving castle"، وحصدها فيلمه الأشهر "Spirited away" عام 2002.

وكانت المفاجأة أن يُعلن ميازاكي قبل سنوات عدوله عن الاعتزال وعودته بفيلم جديد، سيحمل اسم "كيف تعيش؟" How Do You Live الذي من المنتظر عرضه خلال هذا العام الجاري.
ومع انتظار الفيلم الجديد و"تُحفة" جديدة من أعماله، قد يكون هذا وقت لإعادة زيارة أفلامه، وقد لفت نظري طرح دار "المدى" سيرة هاياو ميازاكي ضمن سلسلتها القيّمة لأعلام الفن في كل المجالات، وهي سيرة كتبتها الأمريكية سوزان جاي نابير بترجمة أحمد الزبيدي، وبها تجوب سوزان سيرة فنان الأنيمي الذي لم يتنازل عن تصوراته حِيال ما أحبّ: "لا أريد صنع أفلام يائسة تولّد مشاعر سيئة، أريد صنع أفلام تقول إن الحياة تستحق أن تُعاش".

منى أبو النصر صحفية مصرية
التعليقات