ما العمل؟ ثمن الانتصار - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 5:08 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما العمل؟ ثمن الانتصار

نشر فى : الأحد 22 نوفمبر 2009 - 10:16 ص | آخر تحديث : الأحد 22 نوفمبر 2009 - 10:16 ص

 يرتفع عماد متعب عن الأرض، ويحرك رأسه يمينا بكل ما أوتى له من قوة ويسجل هدفا فى مرمى الجزائر وتنتهى المباراة بفوز مصر 2 / صفر. تصرخ هدى فرحة وتنظر إلى أمها المنشغلة تماما بتطريز مفرش جديد على أمل أن تشاركها غبطتها ولكن برطمة أمها بمعانى شبيهة «بمفيش فايدة فى البلد دى» جعلت هدى تقفز نحو الهاتف للاتصال بواحدة من صديقاتها للنزول والاحتفال فى الشارع مع الجماهير الغفيرة.

أعرف عائلة هدى منذ سنوات طويلة، توفى والدها منذ خمس سنوات بأزمة قلبية وتركها وأمها برصيد مصرفى دافئ، وترك فى صدرهما فجوة باردة ظلت تتسع مع الأيام مع صقيع الخوف من الغد. تخرجت هدى فى واحدة من كليات علم الاجتماع منذ ثلاثة أعوام وتعمل فى مؤسسة لتنمية المجتمع. وهذا ما حدث لها فى ليلة منتصف هذا الشهر.

خرجت هدى مع صديقتين جارتين لها فى حى المهندسين. قررن ألا يأخذن سيارة فالشوارع سوف تكون مكدسة بعلب كبريت ثابتة فى موقعها بلا حراك قابلة للاشتعال فى أى لحظة من فوران الهيجان الجماعى. كان ثلاثتهن يقطن فى أبنية على مسافة بضعة أمتار من شارع جامعة الدول العربية. توجهن سيرا على الأقدام إلى الميدان حيث جامع المرحوم «مصطفى محمود»، وهناك كانت الأعلام المصرية ترفرف والهتافات تتعالى.

ومجموعة هنا تنافس مجموعة هناك فى ارتفاع الصوت أو شدة الحماسة. كانت الفتيات الثلاث فى حالة نشوة صدّرَتها لهن آلاف الابتسامات الهائمة فى الجو.

وبدأت تتوافد جحافل جديدة من البشر من كل فج. ومع كل فوج جديد تزداد سخونة الجماهير. شباب يفرد علم مصر على الزجاج الأمامى للسيارات حتى تنعدم رؤية السائق فيضطر للوقوف تماما، ثم يقف واحد من هؤلاء الشباب على السيارة ويبدأ فى الرقص وزملاؤه يصفقون له وهم يغنون.

وشباب آخر يبحث عن كاميرات ليقف أمامها ويبدأ فى صراخ هستيرى أو يدخل فى وصلة هتافات أو يرقص جزلا. وشباب نزل إلى الشارع وهو محمل بمخزون ضخم من علب البيروسول أو الفليت لتحويلها من مادة لقتل البعوض والحشرات إلى مادة لإشعال النيران فى الجو. وآخرون فضلوا الحل الأرخص وهو أن يشعلوا النيران فى قطع كبيرة من القماش ويلوحون بها وهم يترنمون بأغانى النصر.

تساءلت هدى عن علاقة النار بالانتصار؟.. لماذا يشعل المتفرجون فى الاستاد النار فى الأقمشة بعد إحراز الأهداف؟.. هل يعود الأمر إلى طقوس وثنية قديمة ما زالت رابضة فى أعماق اللاوعى الجمعى؟

لا تعرف الإجابة، ولكنها ترى الآن بعينيها النيران مشتعلة وسط كل مجموعة. فكرت أنه من المحتمل أن تكون هذه النيران هى تجسيد لما يمور بداخل كل واحد منهم، فداخل كل صدر شعلة ملتهبة ممنوعة من التحقق، ممنوعة من التألق فى مجتمع أقزام.

دخلت سيارة الميدان تتدلى من نوافذها ثلاث فتيات فى أوائل العقد الثالث من العمر. تجلس كل واحدة منهن ونصف جسدها الأعلى خارج السيارة وساقيها ممدة على المقعد وهن يرقصن على الموسيقى المرتفعة التى تخرج من كاسيت العربة. وبدأت الأيادى تمتد لملامسة أجساد الفتيات وهن يضحكن ويستكملن الرقص.

كن بلا شك ثلاث من محترفات الدعارة رغبن فى الاحتفال، واشتعل الميدان بالحماس. ابتعدت هدى وصديقتاها عن مكان السيارة وبدأن لأول مرة يلحظن النظرات الجوعى المحمومة تجاههن. اتجهن بسرعة إلى الناحية الأخرى من الميدان وهناك بدأ صبية فى المراحل الأولى من سن المراهقة يقتربون منهن أكثر من المفترض.

قررن أن يتجهن من فورهن إلى أقرب منزل ولكن امتدت أيادى بعض الشباب إلى أجزاء من أجسادهن. صرخن. وأسرعن فى اتجاه آخر. سار الشباب وراءهن فى هدوء القتلة وهم فى حالة شبق واضحة. كانت الجماهير المهتاجة فى كل مكان منشغلة بإطلاق نيرانها الداخلية. تحولت الفرحة فى قلوبهن إلى حالة ذعر وتحولت ابتسامات الجماهير إلى وجوه دراكولا تضوى أنيابها بلون الدم.

تساءلت هدى رغما عنها وهى ترتجف رعبا: لماذا تعتبر الجماهير المهتاجة المرأة أداة للمتعة ابتهاجا بالنصر؟ لم يفكر هؤلاء الشباب بالتأكيد أن هدى هى الأخرى كانت فرحة وتريد أن تشارك الجميع فرحتها، وليست ترغب بالتأكيد أن تكون مجرد خرقة من قماش يتم حرقها لترتفع ألسنة النيران لتطفئ ظمأ المهتاجين.

لم تعرف هدى العلاقة بين النار والانتصار وها هى لا تعرف أيضا علاقة الابتهاج بالنصر بتحرش الرجال بالمرأة. اقترب منهن الشباب فلمحت هدى صيدلية فجرت ومعها صديقتاها نحوها. جرى وراءهن الشباب وهم يطلقون صيحات همجية. لم تصدق هدى نفسها. أن تتحول المنطقة التى عاشت حياتها كلها فى رحابها إلى منطقة طراد تنافس أحراش الأدغال فى وسط أفريقيا هو أمر لا يمكن تصديقه. دخلن الصيدلية وهن يلهثن ويصرخن.

كان فى الصيدلية شابان لمحا الجماهير المهتاجة تقترب من باب الصيدلية فخرجا مسرعين وأغلقا الباب الحديدى من الداخل ثم عادا إلى الداخل وهما ينظران إلى هدى وصديقتيها. تساءلت هدى للمرة الأخيرة: ما العمل؟




خالد الخميسي  كاتب مصري