ماذا حدث في تورينو؟! - علاء الأسواني - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 3:48 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ماذا حدث في تورينو؟!

نشر فى : الإثنين 25 مايو 2009 - 9:09 م | آخر تحديث : الإثنين 25 مايو 2009 - 9:09 م

 تورينو من أكبر المدن الإيطالية وهى تنظم معرضا للكتاب يعتبر من أهم المعارض هناك. وفى العام الماضى تم اختيار إسرائيل كضيف شرف فى معرض تورينو للكتاب، وقد أثار هذا الاختيار جدلا شديدا فى إيطاليا وخارجها. فقد أعلنت الدول العربية جميعا مقاطعتها للمعرض. وفى داخل إيطاليا ظهرت معارضة واسعة للاحتفاء بإسرائيل. لأنها دولة ترتكب بشهادة المنظمات الدولية جرائم ضد الإنسانية فى حق الفلسطينيين. طبعا لم يكن هذا رأى كل الإيطاليين.

فهناك اليمين الإيطالى الذى يدعم إسرائيل بلا تحفظ.. والحق أن هذا الانقسام حول دعوة إسرائيل يعكس انقساما حادا فى المجتمع الإيطالى حول موضوعات كثيرة..

فقد ورثت إيطاليا تقاليد يسارية عريقة جعلت جانبا كبيرا من الرأى العام يناصر القضية الفلسطينية ويتمتع بحس إنسانى رفيع يفرض التزاما نحو كل المضطهدين فى الأرض بغض النظر عن جنسياتهم أو أديانهم.. وعلى الجانب الآخر فإن اليمين الإيطالى الذى أتى بشخص رجعى ومشبوه مثل بيرلو سكونى إلى الحكم، يساند إسرائيل بلا تحفظ وبعض هذا اليمين مثل حزب رابطة الشمال يدعو إلى نقاء العنصر الإيطالى الأبيض واستبعاد الجنوبيين من أهل سردينيا وصقلية ونابولى لأن عيونهم السوداء وبشرتهم السمراء تدل على أنهم قد تلوثوا بالدم العربى.. وهناك حادثتان توضحان هذا الانقسام الفكرى : فقد ظهر فى إيطاليا منذ أعوام مهاجر مصرى يعمل بالصحافة اسمه مجدى علام. وقد تفرغ هذا الشخص للهجوم على الإسلام باعتباره دينا وحشيا يحض على الكراهية والعنف وتفانى فى الدفاع عن إسرائيل باعتبارها واحة الديمقراطية وضحية لوحشية العرب والمسلمين.. احتضن اليمين الإيطالى مجدى علام ومهد له الطريق حتى وصل فى أعوام قليلة إلى منصب نائب رئيس جريدة الكوريرا دى لاسيرا وهى واحدة من أهم الجرائد الإيطالية، وفى نفس الوقت منحته إسرائيل جائزة الصحافة فسافر إلى تل أبيب وتسلم مبلغا كبيرا، قيمة الجائزة، فى احتفال ضخم.. ثم توج مجدى علام مسيرته باعتناقه الديانة الكاثوليكية على يد البابا فى عيد القيامة الماضى ونقلت وسائل الإعلام الإيطالية مراسم تعميده على الهواء. وأصبح اسمه مجدى كريستيانو علام.. والعجيب أن كتب مجدى علام التى تهاجم الإسلام تحقق توزيعا كبيرا مما يدل على شيوع العداء للعرب والمسلمين.. ولكن على الجانب الآخر فإن الكثير من الإيطاليين يحتقرون مجدى علام ويعتبرونه مجرد أفاق، بل إن بعض زملائه فى الجريدة أكدوا لى أنه لم يكن مسلما قط لكنه قبطى مصرى وهو يخفى اسمه الثالث الذى يدل على ذلك.. الحادثة الأخرى حدثت فى ميلانو منذ أسابيع عندما دخل مهاجر أفريقى أسود أحد المحال التجارية ويبدو أنه كان عاطلا عن العمل وجائعا فسرق علبة بسكويت ليأكل. وقد اكتشف صاحب المحل السرقة فقبض عليه وهو يصيح: يا زنجى يا قذر ثم بدأ يضربه بعنف واشترك معه آخرون حتى لفظ المهاجر الأفريقى أنفاسه الأخيرة بين أيديهم. وقد أثارت هذه الحادثة الإيطاليين بشدة وأحس القطاع اليسارى من الرأى العام بفداحة ما حدث فأعلن عن حملة كبيرة سوف تجوب أنحاء إيطاليا تحت عنوان «العنصرية سلوك همجى»..

جاءت دعوة إسرائيل العام الماضى، إذن، فى سياق هذا الانقسام فى الرأى العام الإيطالى.. ونشأت حملة قوية لرفض الاحتفاء بإسرائيل، وتزعم الحملة أستاذ فلسفة فى جامعة تورينو هو الدكتور جيانى فاتيمو.. وهو شخصية مرموقة محترمة ويعتبر من أكبر المفكرين الإيطاليين ومن أكبر المناصرين للحق العربى. وقد اشتدت الحملة ضد إسرائيل حتى شعرت إدارة معرض تورينو فيما يبدو بالذنب، فقررت هذا العام دعوة مصر كضيف شرف فى المعرض.. وهنا حدثت المفاجأة.. فقد وقف الدكتور جيانى فاتيمو بشدة ضد دعوة مصر.. وناصره الكثيرون من الذين كانوا ضد دعوة إسرائيل فى العام الماضى. وكان منطقهم يستند إلى ثلاثة أسباب:

أولا أن الدعوة ليست موجهة إلى كتاب مصريين مستقلين وإنما إلى الحكومة المصرية مما يعتبر دعما سياسيا لنظام استبدادى انفرد فيه شخص واحد بالسلطة لمدة ثلاثين عاما ويريد أن يورث الحكم لابنه، وثانيا لأن ممارسات النظام المصرى مشينة فى مجال حقوق الإنسان فالاعتقال والتعذيب وتزوير الانتخابات من الممارسات اليومية فى مصر، وثالثا لأن النظام المصرى قد شارك إسرائيل فى حصار الفلسطينيين فى غزة عندما أغلق معبر رفح ومنع المساعدات الإنسانية عنهم مما يجعله مرتكبا لجرائم ضد الإنسانية مثل إسرائيل تماما.. وفى وسط هذا الجدل حول دعوة مصر، شكلت وزارة الثقافة المصرية وفدا كبيرا للمشاركة فى معرض تورينو.. وفى الوقت نفسه ظهر كتابى «نيران صديقة» باللغة الإيطالية ونظم لى ناشرى الإيطالى (فيلترينيللى) جولة لتقديم الكتاب فى أربع مدن إيطالية هى تورينو، ايفريا، مون سان مارتان، وميلانو. وهكذا ذهبت إلى معرض تورينو ككاتب مصرى مستقل عن الوفد الرسمى المصرى وقد كانت إدارة المعرض كريمة معى فخصصت لى أكبر قاعة فى المعرض وجاء لمناقشتى اثنين من أهم النقاد فى إيطاليا هما فولدج جولدكورن (من جريدة الاكسبريسو) وكاترينا سوفيجى (من جريدة الجورنالى).. الحمد لله كانت ندوة موفقة جدا فامتلأت القاعة عن آخرها بالحضور وانتهزت الفرصة وتكلمت عن الثقافة المصرية القديمة والحديثة... ثم ذهبت لزيارة الجناح المصرى فى المعرض فلاحظت بسرور أن القاعة كبيرة وأنيقة. لكنى لم أجد إلا شخصا أو اثنين من الزوار الإيطاليين فى الجناح. وسرعان ما فهمت السبب وهو أغرب من الخيال، فقد أرسلت وزارة الثقافة معظم الكتب المعروضة فى تورينو... باللغة العربية.. صدق أولا تصدق يا عزيزى القارئ.. تتم دعوة مصر إلى أكبر مهرجان للكتاب فى إيطاليا، فترسل وزارة الثقافة إلى الإيطاليين معظم الكتب باللغة العربية. هل نتوقع من الزوار الإيطاليين أن يتعلموا العربية فى يومين حتى يقرأوا هذه الكتب؟!. إنها مهزلة، سيتم التعتيم عليها بالطبع فى صحف الحكومة. فقد قامت وزارة الثقافة، كعادتها، بدعوة عدد من الصحفيين الحكوميين لمرافقة الوفد إلى تورينو. وهؤلاء الصحفيون، يتحولون إلى ما يشبه مندوبين دعاية للوزارة فيكتبون تغطيات دعائية تحمل عناوين مثل: «إقبال منقطع النظير على الكتاب المصرى فى تورينو» أو «تورينو ترقص على المزمار البلدى».. إلى آخر هذه السخافات.. لقد سمعت أشياء متضاربة عما حدث فى المعرض فالإيطاليون الذين قابلتهم أعجبوا جميعا بكلمة الأستاذ محمد سلماوى بينما وجدوا كلمة الدكتور جابر عصفور طويلة وأكاديمية ومملة. لكنى أتحدث فقط عما رأيته بعينى.. إن المسئول الذى أرسل الكتب باللغة العربية يجب أن يحاسب لأنه فوت على مصر فرصة لكى تقدم إبداعها وتراثها بلغة مفهومة للإيطاليين..

غادرت تورينو لأستأنف تقديم نيران صديقة طبقا للبرنامج، فذهبت إلى بلدة صغيرة اسمها ايفريا ثم بلدة صغيرة أخرى هى مون سان مارتان.. وفى هاتين البلدتين الصغيرتين نظموا لى ندوتين... فأحضروا ممثلا مسرحيا لقراءة أعمالى وموسيقيا مغربيا موهوبا اسمه عبدالكبير عزف على الكمان ألحانا لرياض السنباطى لتكون بمثابة خلفية للقراءة الأدبية. ولم أستطع أن أمنع نفسى من المقارنة. وزارة الثقافة المصرية التى تنفق ملايين الجنيهات من أموال الشعب المصرى المنكوب بحكامه، تفشل فى إرسال الكتب بلغة أجنبية إلى إيطاليا مما يؤدى إلى انصراف زوار المعرض عن الجناح المصرى. ومكتبة صغيرة فى قرية إيطالية متواضعة تنظم أمسية ثقافية ناجحة.. ما الفرق بيننا وبينهم..؟ إن الإيطاليين والأجانب ليسوا أفضل من المصريين بل إننا على المستوى الشخصى كثيرا ما نتساوى معهم فى التعليم والذكاء.. لكن الفرق فى النظام. هناك نظام ديمقراطى يؤدى إلى أن يأخذ كل مسئول عمله بجدية. وعندنا نظام استبدادى لا يعبأ فيه المسئول بإنجاز عمله وإنما يهتم أولا وأخيرا برضا الرئيس عنه. ولأن السيد فاروق حسنى يتمتع برضا رئاسى دائم وعميق فهو يعلم أنه مهما فعل لا يجرؤ أحد على محاسبته.. الديمقراطية هى الحل.

علاء الأسواني طبيب أسنان وأديب مصري ، من أشهر أعماله رواية عمارة يعقوبيان التي حققت نجاحا مذهلا وترجمت إلى العديد من اللغات وتحولت إلى فيلم سينمائي ومسلسل تليفزيوني ، إضافة إلى شيكاجو ونيران صديقة ، وهو أول مصري يحصل على جائزة برونو كرايسكي التي فاز بها من قبله الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا ، كما أنه صاحب العديد من المساهمات الصحفية.
التعليقات