وسَطية.. وسَطية.. وسَطية - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 9:01 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وسَطية.. وسَطية.. وسَطية

نشر فى : الخميس 26 يناير 2012 - 9:35 ص | آخر تحديث : الخميس 26 يناير 2012 - 9:35 ص

فى قلب مدينة مومباى وفى بيت ضيافة أقامه أحد العرب العاشقين للهند والمقيمين معظم العام بها قضيت بضع ليال حتى أعثر على الفندق المناسب قرب الواجهة البحرية التى أحبها، وكان يزاملنى فى السكن قارئ مصرى ممن ترسلهم «هيئة المقارئ المصرية» هدية من مصر للمسلمين هناك ليحيوا بالتلاوة المباركة ليالى شهر رمضان الكريم. كان الرجل رخيم الصوت عبقرى التلاوة برغم بساطته الشديدة، وعرفت أن فى مصر «جيش» من هؤلاء المقرئين الذين يجتازون امتحانات عديدة رفيعة المستوى ليتم اعتمادهم وانتسابهم للمقارئ المصرية، لكنهم لا يقيمون بالضرورة فى القاهرة، بل يقطنون قراهم ومدنهم وبلداتهم الصغيرة بعيدا عن العاصمة، ويرتبطون بشبكة اتصال وتواصل بسيطة لكنها ناجزة، وما إن يهل شهر رمضان حتى يتم استدعاؤهم، ومن ثم ينتشرون فى كل أرجاء العالم ليصدحوا بآيات الله فى جنباته.

 

دعانى الشيخ المصرى لأصحبه فى ليلة رمضانية هناك، وذهبت حتى لا أكسر بخاطره، كما تصورت، لكننا ما إن دخلنا بالسيارة التى تقلنا إلى مكان الاحتفال فى منطقة «محمد على رود» حتى أذهلتنى أول «مليونية» أراها فى حياتى قبل مليونيات التحرير، فأكثر من مليونى مسلم هندى تجمعوا فى هذه المنطقة منتظرين المقرئ المصرى ليشنف آذانهم بالتلاوة البديعة ويروى صدورهم بكلام الله، وكانت سيارتنا قبل أن تصل إلى مستقرها لا تشق بحر الزحام المليونى هذا، بل تطفو على موجاته محمولة عن الأرض تقريبا، وتعرفت هناك على طيف الألوان العديدة للمجتمع المسلم فى ثانى أهم مدينة هندية، صفوة من الصناعيين والأطباء والتجار وأكثر ما أدهشنى كان حشدا من نجمات ونجوم «بوليوود» عاصمة السينما الهندية التى تنافس بحجمها ونفوذها هوليوود الأمريكية، فقد كانوا مسلمين، وجاءوا يسمعون المقرئ المصرى ويسهرون معه ثم يتسحرون فى المكان. وأخبرنى الشيخ المصرى ونحن نعود بعد أن رفع أذان الفجر فى المكان وأَمَّ الصلاة هناك، أن هذا يتكرر فى كل أنحاء العالم، كتقليد مصرى مستمر، لم ينقطع!

 

 وفى جزيرة من جزر نهر الميكونج فى العاصمة الكمبودية «فنوم بنه» كنت أزور ميتما للأطفال المسلمين الذين فقدوا ذويهم فى حرب هذا البلد الأهلية الطويلة المريرة، وبينما كنت فى داخل المكان سمعت ضجة تتنامى فى الخارج، وأخبرنى مضيفىَّ أن خمسة آلاف إنسان تدفقوا بالقوارب من قرى المسلمين المحيطة بعد أن عرفوا بوجود مصرى من بلد «الأزهر»، وكانوا يطلبون أن أخطب فيهم وأن أكون إمامهم فى الصلاة لينالوا البركة. وبرغم محاولاتى للاعتذار مؤكدا لهم أننى لست شيخا وأن هناك من هو أجدر منى بينهم بالإمامة، إلا أن الاعتذار بدا مستحيلا، فيكفى فى عرفهم أننى مسلم من بلد الأزهر، وأمام الحشد الذى كان يصغى لخطبتى مع ترجمة فورية لأحد مرافقىّ، لم أستطع أن أكبح دمعى ونشيجى، ليس فقط لأنهم كانوا يسمعون الخطبة ركوعا وخشوعا، ولكن تحسُّرا لما ألمَّ بمصر والأزهر، يوم كان طنطاوى هو الإمام الأكبر، ومبارك هو ولى الأمر.

 

 تكررت وقفاتى المذهولة أمام تلك القيمة الاستثنائية لمصر والأزهر بين المسلمين فى أركان قصية من العالم، كيب تاون التى بها مسجد اسمه «الأزهر»، وبورما التى بها 5 ملايين مسلم، ونيبال، والسنغال، وجزر المالدييف التى زرت رئيسها «عبدالقيوم» خريج الأزهر الذى يمتلك ذاكرة خارقة يتعرف بها على كل مواطن على ظهر جزر بلاده الألف ومائتين، وناميبيا، ولاوس، وكنت من قبل تعرفت على هذه القيمة فى كازاخستان وأوزباكستان. كما فوجئت بخريجى جامعة الأزهر من الكليات غير الدينية يدرِّسون فى بعض هذه البلدان محاطين بتوقير استثنائى، لأنهم أزهريون.

 

كل هذه الأصقاع التى ذكرتها، لم يتم انتشار الإسلام فيها تاريخيا بالغزوات أو الفتح، بل عبر ملاحظة السكان للتجار المسلمين الذين وصلوا إلى هناك، فعندما وجدوا فيهم الأمانة والنظافة والصدق واللين والرحمة، سألوا عن دينهم، واعتنقوه، وكانت وسطية واعتدال الأزهر ونفحات مصر الطيبة هى مقصد الاستزاده من سماحة هذا الدين. لكن ذلك الحال استحال إلى كثير من التعنت والتزمت والفظاظة والعنف، والتى لم تكن وليدة ديننا الحنيف قطعا، لكنها تأويلات نفوس مطبوعة على الجفاف أو مُطبَّعة على العنف، هبت على الدنيا من جهامة وهابية الصحراء، ومن خشونة رد الفعل الإسلامى السِندى على التعصب الهندوسى الهندى. وظن كثيرون أن الجلباب القصير والسروال الكميش تحته زيا إسلاميا، فاعتنقوه، برغم أنهما ليسا إلا «شِلوار كميص» مما يرتديه هنود الشمال الغربى من شبه القارة التى انشقَّت بفعل التعصب الدينى والدس الاستعمارى البريطانى إلى باكستان «الإسلامية» وراجستان «الهندوسية».

 

مالنا بذلك كله حتى تتهدد قلعتنا الروحية الأجمل، والأنقى، والأقرب بوسطيتها واعتدالها إلى جوهر الإسلام الحنيف الذى جعلنا به الله أمة وسطا، مالنا بذلك؟ ولا أقول هذا استنكارا لما يقصفنا به غلاة التعصب بين الحين والحين، كأنهم يتسلُّون بترويع خلق الله والإساءة إلى صورة ديننا لو كانوا يدركون. فهؤلاء يخسرون فيما يظنون أنهم يكسبون، ولقد بدأ تيار عاقل ونقى من شباب المسلمين إخوانا وسلفيين يتولون مناهضة غلوهم وتنطُّعهم. لكننى أتكلم متقصدا فئة أخرى تنتمى لذلك الشبح المسمى بالطرف الثالث، والذى ينخرط فى ميليشياته فلول وذيول وقناصة وبلطجية وأبواق إعلامية وإنترنتيَّة مأجورة كلها. وهؤلاء لم يوفرا أحدا من قوى ثورة يناير حتى يصيبوه بالأذى، وكان أشر الأذى فى إطار ما نتحدث عنه هو استهداف رموز أزهرية زاهرة بالأذى المقيت، فكان أن اُغتالوا الشيخ عماد عفت، وافتأتوا على الشيخ مظهر شاهين لاغتياله معنويا، دون أن يقابل ذلك ما يستحقه من اهتمام وانتباه.

 

ليس عندى ذرة شك فى أن الشيخ عماد عفت تم اغتياله عن قصد وتعمُّد، لا بوعى عميق لما يمثله من خطورة نقاء الوسطية المصرية فى مواجهة تيار الغلو والتطرف فقط، ولكن أيضا باللاوعى الشقى لخطورة بعث الدور الوطنى للأزهر والأزهريين فى مواجهة الاستبداد والفساد، لأن هؤلاء الأزاهرة عندما يضطلعون بهذا الدور إضافة لاطمئنان الناس إليهم كرجال دين معتدلين يشبهون السليقة المصرية يكونون أقوى وأفعل من غيرهم الآتين بالغلو والتنطع والافتعال، لهذا قُتِل الشيخ عماد، وجرت محاولة قتل الشيخ مظهر شاهين معنويا، بدفع شهود زور لتلفيق الأكاذيب له، بالرغم من أن الرجل كان داعية ثورة سلمية واضح البيان والجَنان، ومدنيٍّ فى وضاءة الوجه والقلب، رجل دين سمح ومواطن عصرى معا، وهو نموذج قريب من عموم الناس فى زمانه ومكانه، لهذا اكتروا عليه كذابا أشِرا ليلفق له قضية «تحريض على العنف»! وإننى لأستغرب كثيرا أن تحقق معه وزارة الأوقاف عوضا عن أن تحييه وتدعمه؟!

 

لقد تفجَّرت ثورة يناير صارخة بشعار «عيش، حرية، عدالة اجتماعية»، وبعد عام من بدئها نجد أنفسنا فى حاجة لأن نضيف للهتاف «وسطية، وسطية»، ففى غيبة الوسطية والاعتدال المصريين العريقين المحمودين، سنكون قد أبدلنا الاستبداد الفاسق لطغاة الأمس، باستبداد متزمت لغلاة اليوم، والغلو لا يمكن أن يحقق حرية ولا عدالة اجتماعية ولا حتى أن يوافر خبزا للجموع، لأن الغلو ديدنه قصور الرؤية، ومن ثم لن يتجه بنا إلى تنمية لازمة لإقامة العدالة الاجتماعية، بل سيهرب من استحقاقات هذه التنمية ومتطلبات تلك العدالة، ليدخلنا فى متاهة الشكليات والتنطع الذى بدت منه عينة صغيرة عند ترديد قسم عضوية مجلس الشعب أمس الأول.

 

الصورة ليست قاتمة برغم كل «العك» الذى أوقف بلادنا على حواف منزلقات خطرة كجنوح التطرف وصناعة الفتنة، ففى جلسة البرلمان الافتتاحية التى أطلت منها عينة التنطُّع المُشار إليها، برزت مقاومة فورية لهذا التوجه، فنأى الإخوان المسلمون بأنفسهم عن ذلك، وامتنع سلفيون أنقياء السريرة عن ترديد ذلك التزيُّد الاستعراضى، والذى لا لزوم له كون الشريعة الإسلامية كمصدر أساسى للتشريع مصانة الحق فى المادة الثانية من الدستور السابق كما فى البيان الدستورى اللاحق ولا خلاف عليها من الوسطية المصرية الجامعة فى دستور المستقبل، حتى من عقلاء عموم الأقباط.

 

لست متشائما أبدا، فما رأيته فى الجلسة الافتتاحية لأول برلمان مصرى منتخب بعد ثورة يناير، برغم كل شىء يظل برلمانا منتخبا، ولقد برزت فيه، وبرغم أى شىء، إمكانية واعدة لمراجعة الجميع لأنفسهم فى مواجهة امتحان الواقع واستحقاقات المستقبل. ولعل ما كان يجرى خارج البرلمان، من مسيرات مطالبة بحقوق معيشية مشروعة، وقصاص عادل لشهداء الثورة ومصابيها، ودفاع عن حرية الابداع والثقافة، لهى جميعا ظواهر ساطعة على أن مصر جديدة، حرة، مُجاهرة، مثابرة، قد وُلِدت فعليا، خاصة وبشائر الحشد التى رأيتها فى ميدان التحرير صباح أمس، وما يماثلها فى كل ميادين الثورة تقول للكافة: لا أغلبية لأحد على أحد، ولا سبيل للمسير إلا بالتوافق، ولا التفاف على أهداف الثورة بالتنطُّع، والتنطع فى رأيى ليس فقط مغالاة باسم الدين، فالمغالاة باسم الثورية فى اعتصامات ضرها يفوق نفعها، إذا كان منها نفع أصلا، هى تنطُّع آخر مذموم.

 

تحية لثورة كل المصريين: «عيش، حرية، عدالة اجتماعية».. «وسطية، وسطية، وسطية».

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .