تأملات فى عنف المصريين - جلال أمين - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 1:35 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تأملات فى عنف المصريين

نشر فى : السبت 27 يوليه 2013 - 9:50 ص | آخر تحديث : السبت 27 يوليه 2013 - 9:50 ص

كنت دائما أعتقد (بل وما أزال رغم كل ما حدث فى السنتين الأخيرتين) أن المصريين من أكثر الشعوب كراهية للعنف، بل وقد يكونون أشد كراهية للعنف من أى شعب آخر على الإطلاق. لقد شاهدت ما يدل على ذلك بعينى، على مر السنين، وسمعت وقرأت ما يؤيده، كما شاهدت وقرأت عن الشعوب الأخرى (مما فى ذلك شعوب عربية أخرى) ما يؤيده أيضا.

كثيرا ما أتذكر تلك الملاحظة اللطيفة التى كتبها المستشرق الإنجليزى إدوارد لين منذ نحو قرنين، فى كتابه الشهير عن عادات وتقاليد المصريين، من انه مهما احتد الشجار بين مصريين، يكفى لانهاء الشجار بينهما أن يتدخل مصرى ثالث ويطلب من كل منهما ان «يصلى على النبى»، فيلتزم المتشاجران الأدب احتراما للشخصية التى طلبت منهما ان يقوما بالصلاة والسلام الواجبين لها.

قرأت أيضا فى السيرة الذاتية للدكتور عصمت سيف الدولة ان أهل قريته فى الصعيد (وأعتقد ان هذا ينطبق أيضا على سائر المصريين) لا يفهمون الكفر بمعنى إنكار وجود الله (فهذا الإنكار فى رأيهم فى حكم المستحيل)، بل بمعنى القسوة، فيصفون الشخص القاسى بالكفر.

من الصور الأثيرة لدىّ والملتصقة فى ذهنى، صورة اللواء محمد نجيب، قائد انقلاب (أو ثورة) 23 يوليو 1952، وهو يؤدى التحية العسكرية للملك المخلوع فاروق، باعتبار أن الملك كان القائد الأعلى للقوات المسلحة قبل بضع ساعات، عندما أجبره الضباط على التنازل عن العرش، ثم ذهب الملك ليستقل اليخت الذى حمله هو وأسرته خارج مصر إلى غير رجعة.

إننى لم أقبل قط الزعم بأن حادث الأقصر الإجرامى الذى حدث فى 1997، وقتل فيه عدد كبير من السياح بل ومثل بجثثهم، هو حادث خطط له ونفذه مصريون. كما أننى لم أقبل قط الزعم بأن الذى خطط الاعتداء على نجيب محفوظ بعد حصوله على جائزة نوبل كان عقلا مصريا. ولكن المؤسف ان حالة الإعلام فى العالم لا تسمح بكشف الحقيقة فى مثل هذه الأمور، إلا بعد أن يزول أى خطر على الجناة من معرفة الحقيقة.

ثم رأينا كيف كانت ثورة المصريين فى 25 يناير 2011، ثم ثورتهم مرة أخرى فى 30 يونيو 2013، رائعتين فى تجنب العنف والتخريب بأى صورة من الصور، مما أثار دهشة وإعجاب العالم كله مرتين متتاليتين، فى فترة قصيرة.

لماذا إذن مارس المصريون كل هذا العنف غير المألوف فى تاريخهم، خلال فترة العامين (أو أكثر قليلا) التى انقضت بين سقوط حكم حسنى مبارك فى 11 فبراير 2011، وسقوط حكم مرسى فى 3 يوليو 2013؟

أصارح القارئ بأننى، وإن لم يدهشنى البتة عناق المسلمين والأقباط فى ميدان التحرير فى الأيام السابقة مباشرة على سقوط حكم مبارك، ولا أدهشنى ما بدا من وئام تام بين الطبقات الاجتماعية، أو بين الرجال والنساء فى تلك الأيام، اعترتنى دهشة بسيطة أولا عندما سمعت بتوالى الاضرابات والاعتصامات التى سميت بـ«الفئوية»، بمجرد سقوط مبارك، مطالبة بحل مشاكلها على الفور، (إذ بدا لى ذلك تصرفا غريبا بعض الشىء على المصريين). ثم تضاعفت الدهشة الممزوجة بالحزن عندما وقعت حوادث الاعتداء على كنائس وحرقها، ثم على أقباط هنا وهناك. (بدا فى ذلك أيضا ولايزال يبدو لى غريبا على المصريين).

ثم بدأت تتوالى الجرائم السافرة التى لا يمكن تفسيرها على الإطلاق بتطور أحداث الثورة، أو بالتطور الطبيعى لمشاعر الثوار، ولا بمجرد الرغبة فى استعادة الأمن (الذى لم تتم استعادته على أى حال حتى الآن)، من مذبحة مباراة كرة القدم فى بورسعيد، إلى أحداث ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء، وقتل الثوار المسالمين، وإصابة العيون، وكشوف العذرية..الخ.

كان كثيرون ممن صوتوا للدكتور مرسى فى انتخابات الرئاسة فى يونيو 21012، وممن كانوا يفضلون فوزه على فوز أحمد شفيق حتى ولو لم يشتركوا فى التصويت (وكنت أنا من هذا الفريق الأخير) يأملون فى أى يؤدى فوز مرسى إلى انتهاء العنف.

ولكن ها نحن قد رأينا ما تكرر من أحداث عنيفة خلال العام الذى حكم فيه مرسى، واستمر أيضا بعد سقوطه، فى الشوارع والميادين، وأمام المحاكم ومقار الحكومة، وعلى خطوط السكك الحديدية، ويوميا تقريبا فى سيناء، وسمعنا الكثير من الخطب والتهديدات الغليظة، التى تقطر منها القسوة، وتمتلئ بذكر الدم والسيف والموت والشهادة والتكفير..الخ.

•••

نحن إذن أمام لغز لابد أن نحاول حله. المصريون طوال عامين يتصرفون وكأنهم شعب مختلف تماما. الصور التى نراها يوميا تمتلئ بوجوه متقلصة بالغضب والقسوة والرغبة فى الانتقام، ولا يبدو أن من الممكن أن ينفع فى تهدئتها الدعوة إلى الرحمة أو الصفح أو الصلح، أو الصلاة على رسول الله. اننى أدرك تماما ثلاثة أمور قد تقدم لتفسير هذا التحول الفظيع، لكننى لا أشعر بالارتياح إزاءها، إذ إننى لا اعتبرها تفسيرات كافية على الإطلاق لهذه الظاهرة الجديدة.

من الممكن مثلا القول بأن ما تعرض له المصريون من فقر وقهر خلال العقود السابقة لثورة 25 يناير، يمكن أن يفسر استخدام كل هذا العنف بمجرد أن أتيحت للمصريين الفرصة. من الممكن أيضا القول بأن من يسمون بـ«الفلول»، مصممون على استعادة النظام الذى سقط رئيسه فى 11 فبراير، ومستعدون بالتالى لتأجيج وتمويل أى أعمال للعنف تؤدى إلى استعادة هذا النظام. كما يمكن القول بأن ما اعترى نظام الأمن من اختلال، بسبب الثورة نفسها، شجع على ارتكاب أعمال العنف من لم يكن ليجرؤ على ارتكابها من قبل.

نعم، كل هذه تفسيرات معقولة ووجيهة، ولكننى لا أجد أيا منها، ولا كلها مجتمعة، تتناسب مع هذا التغيير المذهل فى درجة العنف وأشكاله الغريبة جدا فى رأيى على المصريين. هل أعمال من يسمى بـ«الجهادية» فى سيناء يمكن تفسيرها بهذه العوامل الثلاثة؟ لا أظن. هل تصويب الرصاص عمدا ضد أقباط فى مسيرة سلمية نحو ماسبيرو، تكفى هذه العوامل لتفسيره؟ لا أظن. هل مقتل ثلاث نساء متظاهرات فى المنصورة يكفى لتفسيره استمرار الفقر والقهر عقودا قبل الثورة، أو مجرد خطة من خطط الفلول، أو مجرد تدهور حالة الأمن؟ لا أظن ذلك أيضا.

إننى أزعم أن كل هذه القسوة التى اتسمت بها هذه الأعمال وغيرها ليست قسوة مصرية. وإنما القادر على التخطيط لها فى مصر، عقول غير مصرية. هى فى رأيى نفس العقول التى خططت ومازالت تخطط لأعمال مشابهة فى القسوة، بل وأقسى منها، فى العراق وسوريا وليبيا وتونس. هذا هو التفسير الذى ارتاح إليه عقليا، أكثر من أى تفسير آخر، ولكننى كلما فكرت فيه امتلأ قلبى غضبا وأسى، على ما وصل إليه حال العالم، وما يسمى أحيانا بـ«المدنية الغربية».

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات