حوكمة الشأن العام في بلدان الجنوب - محمد رءوف حامد - بوابة الشروق
الخميس 10 أكتوبر 2024 10:19 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حوكمة الشأن العام في بلدان الجنوب

نشر فى : الخميس 28 سبتمبر 2023 - 7:45 م | آخر تحديث : الخميس 28 سبتمبر 2023 - 7:45 م
أولا ــ تعقيدية الإشكالية: لأن الشأن العام فى أى مجتمع هو المجال الناجم عن التفاعلات البينية لكل الكيانات التى يضمها هذا المجتمع (بشر ومؤسسات وموارد.. إلخ)، فإن حوكمته، بمعنى المتابعة المنظومية/ المنتظمة لانضباطه وتحسينه (بالرأى والشفافية والمساءلة)، تكون ضرورة للحفاظ على صحة المجتمع وحيويته.
فى بلدان الشمال تمارس هذه الحوكمة تلقائيا، نظرا لوجود حد أدنى للالتزام بجودة الممارسات السياسية، حيث يخضع الجميع لسيادة القانون، ويهيمن النظام السياسى (والخاضع بدوره للممارسات الديمقراطية) على قوى الأمن الشرعى، أى قوى الشرطة والجيش.
وأما فى بلدان الجنوب، فإن حوكمة الشأن العام تكاد تكون مستحيلة، نتيجة لإشكالية تفشى «العشوأة»، و«الرجوعية»، وخضوع الحياة السياسية لهيمنة قوى الأمن الشرعى، وما يصاحب ذلك من الانتهاك لسيادة القانون، والافتقاد لمأمونية التعبير عن الرأى، مع تفشى اللايقينية وعلاقات النفوذ (سر عُقم الشأن العام فى بلدان الجنوب ــ الشروق ــ 2 سبتمبر 2023).
فقط، فى مواجهة تعقيدية هذه الإشكالية، تكمن إمكانية معالجة الواقع وتحسين مستقبلياته.
بشأن هذه المواجهة يبرز اعتباران رئيسيان. يتجسد الاعتبار الأول فى أن بعض بلدان الجنوب قد أنجزت، بالفعل، التحول إلى المسارات المؤَهَلة للتقدم، وذلك بمعياريات سيادة القانون، وهيمنة النظام السياسى (المتَنَفَذ بالممارسات الديمقراطية) على قوى الأمن الشرعى (أى الشرطة والجيش)، مثلما جرى فى شيلى، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، والى حد كبير جنوب أفريقيا والبرازيل.
وأما الاعتبار الثانى، فيختص بالطريقة Methodology، والتى تحتاج إلى المنهج العلمى فى التفكير (التفكير العلمى فى الشأن العام ــ الشروق ــ 15 أغسطس 2023).
• • •
ثانيا ــ منهجية التعامل مع الإشكالية: من الطبيعى أن يكون لتعقيدية الشأن العام فى بلدان الجنوب «مركز ثقل» رئيسى، يصنعها، ويحميها، ويؤجج ضراوتها.
قوة مركز الثقل الرئيسى هذا تعتمد على توليده لسلسلة من مراكز الثقل (التابعة)، والتى من خلالها تتنامى القوة الإفسادية للشأن العام، وتتواصل منهجة تحويله إلى «خرابة» يغرف منها أصحاب المصالح الخاصة، من الداخل والخارج.
هنا يبزغ السؤال عن الماهية التى تنشأ بواسطتها سلسلة مراكز الثقل هذه.
وهكذا، المسألة ــ فى الأساس ــ «منهجية»، أى طرائقية Methodological، وليست بالضرورة أيديولوجية.
من منصة المنهجية، واعتمادا على ما يمكن رصده من ملاحظات بشأن أوضاع بلدان الجنوب، يمكن التوصل إلى الفرض Hypothesis بأن الآلية العظمى لمركز الثقل الرئيسى (وسلاسل تفرعاته) المُسببة لانهيار الشأن العام تكمن فى «المركزية المطلقة».
• • •
ثالثا ــ علاقة المركزية باغتيال الشأن العام: الدور الرئيسى لـ«المركزية» Centralization فى انحراف وتشويه الشأن العام واقع يمكن ملاحظته على مدى التاريخ، ومن الحياة المعاصرة يمكن الاستدلال على نماذج عديدة له، نشير هنا إلى اثنين منها.
يتمثل النموذج الأول فى تسارع انهيار الشأن العام فى بلدان اتصُفت أنظمة الحكم فيها بالمركزية العظمى، وتحديدا الاتحاد السوفيتى وسائر أوروبا الشرقية. لقد كان ذلك الحدث شاهدا على الدور السرطانى للمركزية فى تشويه الشأن العام (وتحلل المجتمعات).
أما النموذج الثانى فيأتى عربيا، حيث تعرض الشأن العام، فى أنظمة وُصفت قياداتها بالتقدمية، إلى محنة التدهورات والانهيارات. لهذه المحنة أمثلة تتجسد فى «مصر عبدالناصر»، و«عراق صدام حسين»، و«ليبيا القذافى»، وقد عانت جميعها، وبرغم إنجازاتها التنموية، من قسوة المركزية.
كانت مسارات الشأن العام فى هذه البلدان تُصنع من منظورات قياداتها، وليس من منصة فاعليات نظام سياسى حقيقى.
لقد أدى ذلك إلى تصاعد للسلطوية، ومعها الانتعاش للمركزية، ولسلاسل تزييف الشأن العام بطبول الاسترزاق، والاتباعية، فضلا عن ممارسة العنف مع الرؤى المخالفة.
من بين هذه المسارات السلطوية، كان نموذج «مصر عبدالناصر» الأقل شراسة، الأمر الذى قد يعود إلى الزخم التاريخى ــ النسبى ــ للمسار السياسى المصرى و/ أو إلى تميز فى العمق الثقافى والنقاء الشخصى لعبدالناصر، والذى كان أيضا زعيما لحركات التحرر.
فى هذا النموذج كانت هزيمة يونيو 1967 دالة على تفاقم المركزية. وفى المقابل، كان البزوغ المفاجئ للانتفاضة الطلابية (24 فبراير 1968)، والتى «رفضت» إرجاع الهزيمة إلى أداءات بعض ضباط الطيران، و«انتقدت» الأوضاع المركزية المتعلقة بالشأن العام (محمد عبدالسلام ــ سنوات عصيبة ــ ذكريات نائب عام ــ دار الشروق، 1975). هنا تجدر الإشارة إلى ما جدَّ حينها من إدراكات لضرورة الخروج عن المركزية فى إدارة البلاد، الأمر الذى تجسد فى:
ــ بيان 30 مارس 1968.
ــ سعى عبدالناصر فى اجتماعات اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى إلى الحس على التنقيب النقدى لأوضاع الشأن العام.
ــ إدراك عبدالناصر أن تقدم مصر مرهون بممارسة التعددية السياسية.
برغم هذه الإدراكات، وأيضا برغم نجاح حرب الاستنزاف، وثبوت جدارة القوة العسكرية الوطنية فى أكتوبر 1973؛ إلا أن تدهورات الشأن العام، نتيجة ما كان من تجذرات مزمنة للمركزية، قد أدت إلى تآكل تراكمى لاحق لمجمل إنجازات «مصر عبدالناصر». لقد تجسد ذلك فى مسارات متتالية، بدأت مع الانفتاح الاقتصادى (1974) واستمرت ــ وما زالت ــ فى تلاحق متسارع لأكثر من خمسة عقود.
أيضا، يجدر الانتباه إلى أنه من مآسى إشكالية «المركزية» تفشى تمسك القيادات بالتمترس فى السلطة مدى الحياة، مما يُعملق من إفسادات الشأن العام.
وهكذا، يمكن الاستنتاج بأن «المركزية» المطلقة مركز ثقل رئيسى مسبب لانهيار الشأن العام. وبالتالى، تكون «اللامركزية» آلية رئيسية لحماية الشأن العام، من خلال تجنب المركزية والتصدى لها.
فى هذا الخصوص تكمن فى اللامركزية عبقرية تستحق التناول.
• • •
رابعا ــ فى عبقرية اللامركزية:
1ــ معنى اللامركزية:
عادة يُشار إلى اللامركزية باعتبارها النظام الذى تُتخذ فيه بعض القرارات دون رقابة (أو سابق تجهيز) من المركز. المقصود هنا بتعبير «بعض القرارات» أنها تلك المتعلقة بمجالات تسيير المنظومة اللامركزية لشئونها، وفقا للمهام المخصصة لها. وبالتالى، لا يكون للسلطة المركزية أن تتخذ قرارات نيابة عن المكونات المنظومية التى تمارس اللامركزية.
هذا، ويمكن وجود مسئولية مشتركة بين المستويات المركزية واللامركزية، وفقا لما يكون قد تم تنظيمه من تفريع للمهام.
2ــ القيم المتعلقة باللامركزية:
ــ «التعبير بحرية».
ــ «الاستجابة الأسرع للمشاكل المفاجئة».
ــ «توسيع المشاركة» فى ممارسة المسئولية واتخاذ القرار.
ــ إدراك «أهمية التنوع» فى الخبرات والرؤى.
ــ التعامل مع الأزمات من قرب، مما يدعم «الممارسات النضالية» فى حلها.
ــ «ارتقاء الحس الذهنى لعموم المواطنين» من خلال ممارسات تتميز بالوضوح والمساواة.
ــ «العدالة»، وتكون مدخلا لتجنب مركزية الثروة والسلطة.
3ــ المزايا العملية للامركزية:
ــ تخفيض الأعباء الروتينية على القيادات الأعلى، وتمكينهم من التركيز على التوجهات طويلة المدى.
ــ الاستفادة من الظروف المحلية فى عمليات اتخاذ القرار.
ــ المرونة فى اتخاذ القرارات وحل المشكلات.
ــ سهولة كشف نقاط الضعف (وعلاجها) ونقاط القوة (والاستفادة بها).
ــ زيادة التأهل والاكتشاف للكفاءات.
4ــ الأبعاد السياسية والإدارية لـ«اللامركزية»:
فى هذا الخصوص، تساهم اللامركزية، بطبيعتها، فيما يلى:
ــ تنشيط «الفعل التواصلى»، مما يدعم تشاركية عموم المواطنين فى عمليات التوصل إلى السياسات، وفى حوكمتها.
ــ تدعيم مبادئ حكم الأكثرية، بمعنى ممارسة الديمقراطية.
ــ بزوغ الأهداف الإنمائية للمجتمع بطريقة أكثر تلقائية، وإدارتها بأعلى كفاءة.
ــ الصناعة الآمنة للوعى، وتصاعد منسوب المعرفة، عند عموم المواطنين.
• • •
ختاما، يمكن الاستنتاج بأن «اللامركزية» تُشكل آلية جوهرية لحوكمة الشأن العام فى بلدان الجنوب، ولحمايته من دوامات المركزية المطلقة. يتبقى أن المضى فى هذا الاتجاه يحتاج من أهل الجنوب إلى ممارسة الفعل التواصلى استهدافا لصياغة معالم ما يعانونه من المركزية، ولتحديد مواضع وأشكال «اللامركزية» التى يحتاجونها.
محمد رءوف حامد خبير صناعة الأدوية ورئيس هيئة الرقابة الدوائية السابق
التعليقات