غروب وشروق - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 3:06 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غروب وشروق

نشر فى : الإثنين 28 ديسمبر 2020 - 9:45 م | آخر تحديث : الإثنين 28 ديسمبر 2020 - 9:45 م

فى كل موعد يضربه العالم سنويا لطى صفحة عام ينقضى وآخر ينبلج فجره، تتجلى سنة الله الكونية المتمثلة فى ثنائية الغروب والشروق التى تبقى سرمدية ما بقيت الحياة. ففى حين ينذر الغروب بمضى الأزمان وانقضاء الآجال وأفول الحقب، يبشر الشروق ببزوغ عهد جديد ونشأة حياة أخرى وانفتاح آفاق حبلى بالفرص وملأى بالإمكانات. وما بين هذا وذاك، تبقى ألباب البشر متطلعة دوما إلى أن يستأصل الغروب فى طريقه شأفة كل معاناة تنغص دنياهم من أحزان أو آلام أو حرمان، بينما يحمل الشروق فى راحتيه أسبابا ومسوغات شتى للسعادة الأبدية.
وفى خضم ظلمات العصور الوسطى، سقط غربيون كثر ببراثن الاعتقاد فى أن انعطاف الألفية الأولى يمثل إيذانا بنهاية الكون وقيام الساعة، ليعم الهلع ويسود القنوط، وتتفرق السبل بالناس بعدما هجروا أعمالهم ومنازلهم، إلى أن تفندت وانقشعت تلك التراهات غير المرتكنة إلى سند معرفى أو دليل منطقى بفعل توهج أنوار عصر النهضة. ومع اقتراب نهاية الألفية الثانية، عاد شبح النهايات ليغازل العقل البشرى مجددا، بطروحات على شاكلة نهاية التاريخ، الأيديولوجيا، الفلسفة..وغيرها. وما كاد العالم يبرأ من ذلك الجدل المعرفى المرهق، حتى دهمته جائحة كورونا بإعادة إنتاج سيناريو النهايات البغيض، بعدما أغلقت العالم، وطرحت تساؤلات مثيرة بشأن مآلات العولمة، ومستقبل النظام الدولى، علاوة على مدى نجاعة الإنسان فى إدارة العلاقة الشائكة مع بيئته الكونية، التى تأكدت عدم إحاطته الكاملة بأسرارها.
فلم يكد يخبو وهج أضواء وأهازيج الاحتفالات الصاخبة بمقدم العام 2020، حتى فجعت الإنسانية بجائحة وبائية مأساوية أعادت إلى الأذهان تلك التى عصفت بملايين البشر على مدى أزمان غابرة. ولا تكمن خطورة وباء «كوفيد ــ19» فقط فيما استتبعه من تداعيات كارثية على إنسان هذا الزمان، كإزهاق أرواح ما يزيد على مليون وسبعمائة ألف شخص وإصابة اكثر من 80 مليون آخرين، أو حتى تكبيد الاقتصاد العالمى أكثر من تسعة تريليونات دولار، بحسب صندوق النقد الدولى، وتضييع 400 مليون وظيفة، وفقا لمنظمة العمل الدولية، فيما توقع برنامج الأمم المتحدة الإنمائى أن يضيف 250 مليون فقير إلى مليار آخرين يعانون قسوة الفاقة حول العالم، ويوقف عجلة التنمية البشرية لأول مرة منذ ثلاثة عقود، بقدر ما تتجسد فى تزامنها مع الوهن والاعتلال الشديدين اللذين يلقيان بظلالهما الكئيبة على النظام الدولى الراهن، الذى أماطت اللثام عن سوءاته، بعدما نزعت عنه ورقة التوت التى كانت تستر أوجاعه الجسام وتوارى أعراض أسقامه العضال.
وبعدما استأثر باهتمام العالم منذ بداية العام المنتهى، أبى الفيروس المخادع إلا أن يسترقه مجددا فى خواتيمه. فما كادت الإنسانية تستبشر خيرا بولادة لقاحات واعدة تجهز على القاتل الصامت أو توقف انتشاره على الأقل، فيما لم يبرح الأوربيون يهنأون قبل أيام قلائل من انقضاء ذلك العام الثقيل، وبعد أشهر مضنية من المفاوضات الماراثونية، بإدراك اتفاق تجارى تاريخى بين لندن وبروكسيل يحدد معالم علاقاتها المستقبلية فى مرحلة «ما بعد بريكست»، بما يجنبهما خسائر جمة كانا سيتكبدانها حالة خروج بريطانيا نهائيا من التكتل الأوروبى غدا دونما اتفاق، حتى أعلن رئيس الوزراء البريطانى عن رصد طفرات جينية للفيروس تنتج سلالات جديدة أوسع انتشارا وأكثر قدرة على إصابة الأطفال، لتجتاح العالم موجات إضافية من الفزع، وتلوح مجددا نذر إغلاق كبير، برغم تأكيد منظمة الصحة العالمية عدم وجود دليل علمى على تفاقم خطورة السلالات المنبعثة، أو استعصائها على الاكتشاف من خلال الفحوصات المتوفرة، أو تحديها للقاحات المبتكرة.
فى حين تمضى إدارة ترامب لاستنفار المجتمع الدولى لمطالبة الصين بتحرى الشفافية وتحمل مسئوليتها القانونية والأخلاقية جراء انتشار فيروس «كوفيدــ19»، داعية إلى عقد مؤتمر دولى يجرِّم موقف بكين ويطالبها بدفع التعويضات الملائمة لباقى دول العالم جراء الخسائر البشرية والاقتصادية الهائلة التى تكبدتها بسبب الوباء الذى تستر الصينيون على ظهوره فى بلادهم تجنبا للأضرار الاقتصادية وحفاظا على سمعتها العالمية كمصنع للعالم وقاعدة لسلاسل الانتاج الضخمة، حتى تفشى فى أصقاع المعمورة، يدعو الاتحاد الأوربى، من جانبه، إلى إجراء تحقيق علمى شامل ومستقل حول نشأة وتطور الجائحة، فيما اعتمدت منظمة الصحة العالمية فى مايو الماضى، قرارا يحض على التنسيق الدولى فى مواجهة الأزمة الوبائية، كما يطالب بضرورة تمكين جميع شعوب العالم من الوصول إلى وسائل التشخيص وسبل العلاج من الأدوية واللقاحات الآمنة والفعّالة والميسورة وعالية الجودة، فى الوقت المناسب، وبغير تمييز، ودونما معوقات، بغية التعافى من الفيروس الغادر، وبما يعزز سبل الاستجابة المثلى لهذه الأزمة من خلال التضامن المتعدد الأطراف تحت مظلة الأمم المتحدة، ويتيح للحكومات المواءمة بين مساعى الوقاية من الأوبئة والسيطرة عليها، بالتوازى مع المضى قدما على درب الديمقراطية والتنمية الشاملة، كما يكفل استخلاص الدروس والعبر من هكذا أزمة ويرفع مستوى جهوزية الدول للتصدى الناجع لأية جوائح وبائية أخرى محتملة فى قابل الأيام.
على صعيد آخر، وبينما تبارت قيادات دولية شتى فى الهرولة نحو تشنيف أسماع العالم بالإعلان عن دحر تنظيم «داعش» الإرهابى، والتفاخر بغروب طيفه المقيت إلى غير رجعة، أقر المبعوث الأمريكى السابق إلى سوريا جيمس جيفرى، قبل قليل، بصعوبة القضاء على التنظيم المتطرف قضاءً مبرما، فى ضوء عودة أنشطته فى العراق وعلى طول نهر الفرات شمال شرق سوريا، كما المناطق التى يسيطر عليها النظام السورى، حيث لا يتورع مقاتلون دواعش عن الإغارة على بعض الأراضى واحتلالها بين حين وآخر، كما لا يتوقفون عن استهداف القيادات القبلية المحلية وقوات الأمن، فضلا عن ترويع وابتزاز التجار والمزارعين، وأكد جيفرى مواصلة التنظيم تدريب الإرهابيين وإرسالهم إلى ما وراء العراق وسوريا، مشيرا إلى امتلاكه منصات تواصل اجتماعى متطورة للغاية، واحتفاظه بجاذبيته فى استجلاب المقاتلين المحتملين بنفس الوتيرة التى كانت عليها إبان فترة الخلافة، الأمر الذى خوله تجنيد متطوعين جدد، حتى تراوح تعداد عناصره ما بين 8000 و16000 مقاتل، لم يفت فى عضدهم أو يحد من قدراتهم القتالية، مقتل زعيمهم السابق أبوبكر البغدادى، حيث سارع خليفته محمد المولى فى ملء الفراغ الناجم عن غيابه عبر تولى قيادة التنظيم.
من خلال رائعته الدرامية السينمائية التى أبصرت النور عام 1970 بمسمى «غروب وشروق»، وتناولت فترة دقيقة وفاصلة بين حقبتين مختلفتين من تاريخ مصرنا العزيزة ونضال شعبها الأبَى للتحرر من ربقة الاحتلال الانجليزى وأذنابه، توطئة للشروع فى بناء وطن مستقل وناهض بسواعد بنيه المخلصين، حتى حظيت بالمركز رقم ٥٩ ضمن قائمة أفضل ١٠٠ فيلم فى ذاكرة السينما المصرية، حسب استفتاء النقاد عام ١٩٩٦ بمناسبة مرور مائة عام على أول عرض سينمائى مصرى، والثانى عالميا بعد ذلك الذى شهدته فرنسا عام 1896، حاول المخرج العبقرى كمال الشيخ، بالتعاون مع المؤلف جمال حماد، والسيناريست حينئذ رأفت الميهى، إضافة إلى كوكبة من قامات العصر الذهبى للنسخة المصرية من الفن السابع كسعاد حسنى، رشدى أباظة، محمود المليجى، صلاح ذو الفقار، محمد الدفراوى، إبراهيم خان، فضلا عن باقة متميزة من نجوم الظل، تسليط الضوء على غروب ماضى استعمارى يعج بآلام القهر والتخلف والظلم الاجتماعى، وشروق مستقبل يفوح بعبق الحرية والاستقلالية وينضح بآمال التنمية والتقدم والعدالة.
وإنى وإن كنت قد حذرت فى مقال سابق، من هذا المنبر المرموق، مع بداية احتدام مأساة كورونا مطلع العام المنقضى، من التسرع والتهافت لاستشراف ما بعد الزمن الكورونى، طالما تلبد غيوم اللا يقين المعرفى، واستفحال التداعيات المربكة للجائحة، مع ضبابية الأفق الزمنى المتوقع لانحسارها، لأرى اليوم فى تعاقب الغروب والشروق ممثلا فى الانتقال من نهاية عام إلى بداية آخر جديد، برغم ما قد يطويه بين ثناياه من عذابات وأوجاع وذكريات مؤلمة، دليلا وآية لاستمرارية الحياة وسيرورتها، وبقاء الإنسان، وتجدد آماله فى غد يمكن أن يكون أفضل، إذا ما استوعب البشر دروس دنياهم واستلهموا العبر والعظات مما يلم بهم من نوازل وأهوال، ولم يستنكفوا عن مباشرة ما يعرف فى علم الاجتماع بـ«التأمل الانعكاسى»، الذى يحض على البحث الدقيق والمتعمق فى مكنونات النفس، وإعمال النقد الذاتى فيما يعتمل بداخلها من أفكار ومدركات، تترجم بدورها إلى أفعال وسلوكيات.
وبينما اعتقد الروائى والفنان الأمريكى المعروف هنرى ميلر فى أن «العالم الذى نعيش فيه ليس سيئا، ولكن طريقتنا فى النظر إليه هى الرديئة»، كان عالم الفيزياء الألمانى الأمريكى الأشهر ألبرت آينشتاين، صاحب نظريتى النسبية الخاصة والعامة، اللتين وضعتا اللبنة الأولى لعلم الفيزياء النظرية الحديث، كما مهدتا السبيل لإنتاج الطاقة النووية، بشقيها المدنى والعسكرى، يقول: «من رحم كل أزمة تولد فرصة عظيمة».

التعليقات