الرثاء المضحك - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
السبت 18 مايو 2024 6:03 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الرثاء المضحك

نشر فى : الإثنين 30 أغسطس 2010 - 10:28 ص | آخر تحديث : الإثنين 30 أغسطس 2010 - 10:28 ص

 يتفق الرثاء فى الأدب العربى دائما مع جلال الموت، فيكون ساحة للتفجيع وتعديد المناقب الحسنة للمتوفى، مما يتناسب مع الشعور بالفقد وطبيعة المشاعر الإنسانية فى مثل هذه المناسبة.

لكن اللافت للنظر أن رثاء الطفيليين يسير فى اتجاه آخر ساخر، وكأنه قد كتب على الطفيلى المسكين أن يكون مادة للضحك حيا وميتا، فهو عديم الشأن وأهون بكثير من أن تكتب فيه قصيدة لتخليد موته، لكن لا مانع من اقتناص ضحكة أخيرة على جثته مادام السادة سيحرمون من بعده من طرائفه المسلية على موائدهم العامرة، حيث يقول أحد هؤلاء السادة:
لذة التطفل دومى وأقيمى لا تريمى
أنت تشفين غليلى وتُسلين همومى
بينما يقول الشاعر أبو عبدالله البنانى فى مطلع واحدة من أشهر وأطول القصائد التى كتبت فى رثاء الطفيليين:
أبكى لفقدك عند كل غذاءِ
ولطِيبِ أكْلِكَ عند كل عشاءِ
يا شيخ أهل الأكل غير مُدَافِعٍ
لو كنت تسمعُ أو تُجيبُ ندائى
لو تسطيع لك الموائد فديةٌ لفدت، وكيف ولات حين فداءِ

فالشاعر يبدأ قصيدته بالتفجع الطريف الذى تنحصر لحظته وتحين ذكراه فقط عند تناوله الطعام، كما أنه بدلا من أن يظهر استعداده لفداء المتوفى بحياته وفقا لعادة الشعراء العرب فى مبالغتهم الرثائية، فإنه يقصر هذا الاستعداد للفداء على الموائد فقط بوصفها أقرب أقرباء الطفيلى وأكثر من عشق فى دنياه الفانية.
لهذا فهو ينتقل بعد ذلك إلى تعديد مناقبه فى ساحة اقتناص الطعام والتهامه، متحسرا على افتقاد مهاراته الفائقة:
من للثريد إذا ارتوى من دُهْنِهِ
فى الصحن رَىّ سحابةٍ وَطْفَاءِ
يا قانص الفَرُّوج من سَفُّودِهِ قَنَصَتْك كَفٌّ آذنت بفناءِ

ولا يمكن أن ينسى الشاعر فى سياق كهذا موقف الحلوى من موت الطفيلى، أو قل موقف الطفيلى فى حياته منها، أو بالأحرى تلك العلاقة العاطفية بينهما، حيث يقول:
زلت بمصرعك الولائم واغتدى التطفيل رهن كآبة وبكاءِ
أبقيت فى قلب القطائف حسرة
لا يَسْتَقِلُ بها صباح مساءِ
هيهات أن تنسى اهتشاشك نحوها بطويل باعك واليد الرعشاءِ

وقد يتجاوز رثاء الطفيلى حد السخرية المضحكة، إلى آفاق الذم الصريح للمتوفى فى إطار مضحك أيضا، حيث يقول شاعر آخر:
يا أيها الميت الذميم
لدى الأقارب والأباعدْ
من للهرايس إذا فُقِدْتَ
وللثرائد والعصائدْ
والأكل ما قَدَرَتْ عَليه يداكَ من حارٍ وباردْ
قد كنت تلتهم الرؤوس
إذا خلوت وفى الشواهدْ
وتعيث فى مال الصديق
كوارثٍ فى مال والدْ
أظننت أنك سوف تخلدُ
وابن آدم ليس خالدْ

وصحيح أن كتب الأخبار تروى فى معظمها سخرية السادة من الطفيليين، لكنه لو تصادف وجود طفيلى شاعر فإنه يرد الصاع صاعين، حيث يقول أحدهم:
إنا وجدنا خلفا شر الخلفْ
وَغْدا إذا ما ناءَ بالحِمْلِ خَضَفْ
أَغْلَق عنَّا بابه ثم حَلَفْ
لا يُدْخِلُ البَوَّابُ إلا من عَرَفْ

فما أبشع صورة هذا الغنى الذى أعطاه الله نعما كثيرة ثقلت عليه حتى إنه يصدر ريحا إذا أراد حملها دفعة واحدة، لكنه على الرغم من هذا يضن على الفقير المحتاج الذى لا يملك إلا التشهير به.

وهذا التفاوت الطبقى هو الذى دفع رجالا أصحاب علم وأصل إلى التطفل، حيث يقول أحدهم:
ولما رأيت الناسَ ضَنَّوا بمالهم
فلم يَكُ فيهم من يهش إلى الفضلِ
ولم أَرَ فيهم داعيا لابن فاقةٍ
يَحِنُ إلى شُربٍ ويصبو إلى أكلِ
رَكِبْتُ طُفَيْلِيا وطَوَّفْت فيهمُ
ولم أكترث للحلم والعلم والأصلِ
كـأن غُدُّوِى والرواح إليهمُ غدوى إلى أدنى القرابات من أهلى

فصناعة التطفل وليدة التفاوت الطبقى فى مجتمعات لا تعرف طريقا إلى التكافل الاجتماعى الذى يضمن وحدة المجتمع وتماسكه.

التعليقات