إيطاليا ليست الأخيرة - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 12:50 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إيطاليا ليست الأخيرة

نشر فى : الجمعة 30 سبتمبر 2022 - 7:15 م | آخر تحديث : الجمعة 30 سبتمبر 2022 - 7:15 م

لم يترك اليمين المتطرف مكانا فى أوروبا إلا وطرقه وسجل به صعودا لافتا تارة من خلال صناديق الاقتراع وتارة ثانية عبر الحراك الاحتجاجى ضد قضايا الهجرة واللجوء.
وفى مواجهة اليمين المتطرف بامتداداته العنصرية يقف سياسيا من جهة اليسار التقليدى الممثل فى الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية واليسار التقدمى الذى تجسده أحزاب الخضر وأحزاب يسارية شبابية حديثة التأسيس، ومن جهة أخرى اليمين المحافظ الذى تحمل رايته الأحزاب المسيحية الديمقراطية وتتداخل معها أحزاب ليبرالية صغيرة. أما الحراك الاحتجاجى لليمين المتطرف فيقارعه فقط باحتجاجات سلمية ترفض العنصرية وخطابات الكراهية ضد الأجانب واللاجئين واللاجئات اليسار التقليدى والتقدمى، بينما تسجل أحزاب اليمين المحافظ والأحزاب الليبرالية غيابا واضحا عن الشارع. غير أن الحضور الانتخابى والاحتجاجى لليمين المتطرف يواصل الصعود ويفرض على المجتمعات الأوروبية واقعا جديدا لم يعد يجد إنكاره.
• • •
وثقت استطلاعات الرأى العام التى تجريها المراكز البحثية الأوروبية للتعرف على أولويات المواطنين والمواطنات والقضايا الكبرى التى تشغلهم وتفضيلاتهم بشأنها حقيقة الصعود الانتخابى والسياسى لليمين المتطرف الذى يشكل اليوم الحكومة الائتلافية الجديدة فى إيطاليا ويضمن الأغلبية البرلمانية لحكومة اليمين المحافظ فى السويد.
حتى تسعينيات القرن العشرين والعقد الماضى، كانت استطلاعات الرأى العام تظهر اهتمام الشعوب الأوروبية الواسع بقضايا السياسة الداخلية مثل تمايزات برامج أحزاب اليمين واليسار، ومواقف الائتلافات الحاكمة فيما خص النظم الضريبية وتقليص فجوة الدخول بين الأغنياء والفقراء، وضمانات الرعاية الاجتماعية للعاطلين عن العمل وللأطفال ولكبار السن. وفى أوقات الأزمات الدولية كالغزو الأمريكى ــ البريطانى للعراق فى ٢٠٠٣، ولحظات الصراعات الإقليمية كالحروب الأهلية فى يوغسلافيا السابقة فى تسعينيات القرن العشرين، كانت الشعوب الأوروبية تتفاعل مع السياسات الخارجية لحكوماتها وتبدى التأييد أو الرفض إن فى صناديق الانتخابات أو عبر الاحتجاجات العلنية (ولنتذكر على سبيل المثال التظاهرات الشعبية الواسعة فى بريطانيا ضد تورط حكومة تونى بلير فى غزو العراق فى ٢٠٠٣).
أما اليوم، فلم تعد تلك الصورة المتوازنة لاهتمامات الشعوب الأوروبية غير سراب لا وجود له فى الواقع. تدلل استطلاعات الرأى العام المعاصرة على تحولات جذرية حدثت وتحدث فى أوروبا التى صار المواطن والمواطنة بها غارقين فى نوعين من القضايا، التنازع على الهوية الوطنية (المفترضة أو المتصورة) لبلده والصراعات العنيفة على تخصيص الموارد.
فمن جهة، فرضت الموجة الجديدة لهجرة الشرق أوسطيين مع انهيار الدول الوطنية فى سوريا واليمن وليبيا والآسيويين من المجتمعات التى تعانى من حروب أهلية مشتعلة منذ عقود والأفارقة من البلدان التى تفتك بها كوارث الفساد والفقر والبطالة، فرضت هذه الموجة قضايا الهوية على الشعوب الأوروبية وقسمتها إلى معسكرين متنازعين. المعسكر الأول هو معسكر أنصار إغلاق أبواب أوروبا فى وجه القادمين من خارجها والذين باتت أحزاب اليمين المتطرف واليمين الشعبوى تعبر عنهم وتحصد أصواتهم الانتخابية. أما المعسكر الثانى فهو معسكر دعاة الإنسانية المتسامحة المتمسكة بتمكين الأشخاص غير الأوروبيين من القدوم إلى القارة كمهاجرين وطالبى لجوء وباحثين عن فرص للعمل وللحياة الآمنة وهؤلاء تحمل برامج بعض أحزاب يمين الوسط واليسار التقليدى واليسار التقدمى قناعاتهم وتعبر عنها. وبين صعود اليمينيين المتطرفين ومشاركتهم فى حكم دول أوروبية متزايدة العدد وتراجع الأحزاب الديمقراطية وتخلى بعضها عن سياسات فتح أبواب القارة للأجانب، تدور صراعات سياسية مريرة حول الهوية تستدعى أحيانا أسوأ ما فى تاريخ أوروبا من مشاعر العنصرية والأفكار الفاشية. ولننظر إلى ما حدث قبل أيام قليلة فى إيطاليا التى فاز بها الفاشيون الجدد بالانتخابات البرلمانية.
كذلك ينقسم الأوروبيون والأوروبيات فيما خص قضايا الهوية الوطنية بين مؤيدين لبقاء الاتحاد الأوروبى ومشروعه الاندماجى الذى ضمن السلم والرخاء لعقود طويلة وبين راغبين إما فى الخروج منه على النحو الذى قررته أغلبية البريطانيين قبل سنوات أو فى تقييد سلطات واختصاصات الاتحاد وتمكين الدول الوطنية من استعادة سيادتها المفقودة التى استلبتها بروكسل ببيروقراطيتها صاحبة الصلاحيات الواسعة.
من جهة ثانية، تدلل استطلاعات الرأى العام الراهنة على أن الشعوب الأوروبية باتت تقصر اهتمامها فيما خص قضايا السياسة الداخلية إذا ما استثنينا مسألة الهوية الوطنية على توزيع موارد بلدانهم على أولويات مثل المعاشات والرعاية الصحية والتعليم ودعم كبار السن ودعم الأسر ذات الأطفال ومساعدة المهاجرين والمهاجرات واللاجئين واللاجئات وشئون البيئة. بل إن الشعوب الأوروبية أضحت تتعامل مع أمر توزيع الموارد على نحو صفرى بحيث تنظر مجموعات المواطنين المختلفة لتخصيص الموارد كأمر لا يقبل القسمة أو المشاركة أو تغليب المصالح العامة.
ولذا يدفع اليمين المتطرف باتجاه إلغاء الموارد المخصصة لمساعدة المهاجرين واللاجئين طارحا على ناخبيه وناخباته رؤية صراعية تدعى أن ما يذهب للسوريين وللأفغان وللمسلمين الآخرين، وليس للأوكرانيين، إنما يخصم من مخصصات المعاشات والرعاية الصحية ودعم كبار السن ويقلل أيضا من الموارد المخصصة لتجديد البنى التحتية فى العديد من المدن والقرى الأوروبية. وإزاء ذلك، تشعر أحزاب يمين الوسط واليسار التقليدى واليسار التقدمى بالضغط المتصاعد للناخبات والناخبين الغاضبين من فتح أبواب أوروبا للأجانب وتتراجع عن سياساتها السابقة وتقلل الموارد المخصصة لهم مهما كانت مقولات اليمين المتطرف غير موضوعية ومهما كان دمج المهاجرين واللاجئين فى سوق العمل أنفع اقتصاديا واجتماعيا من تهميشهم فى مجتمعات شاخت وتحتاج للعمالة الشابة.
فقط أحزاب الخضر واليسار التقدمى، وقليل من الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، هى التى تواجه غضب المواطنات والمواطنين المتأثرين بشعارات ومقولات اليمين المتطرف بتكثيف طرح سياسات وبرامج لدعم كبار السن والأطفال والأسر محدودة الدخل دون تراجع عن دمج المهاجرين واللاجئين.
• • •
بقضيتى الهوية الوطنية وتخصيص الموارد يطرق اليمين المتطرف كافة بقاع القارة الأوروبية. ولم يعد صعود اليمين المتطرف بقاصر على الديمقراطيات حديثة العهد نسبيا فى وسط وشرق أوروبا كبولندا والمجر ولا على الديمقراطيات المأزومة اقتصاديا فى جنوب القارة حيث فاز، كما سبقت الإشارة، الفاشيون بالانتخابات البرلمانية الأخيرة فى إيطاليا. ولم يعد بموضوعى اختزال صعود المتطرفين والعنصريين فى إشكاليات ذات طبيعة خاصة فى بلدان أوروبية كبيرة كصعوبات اندماج ذوى الهوية الإسلامية فى فرنسا وتحديات دمج الولايات الشرقية فى ألمانيا الموحدة ونشر ثقافة التسامح مع الأجانب واللاجئين واللاجئات فى مدن الشرق. فقد صار صعود اليمين المتطرف، وكما تدلل استطلاعات الرأى العام فى أوروبا، ظاهرة عامة ومرشحة للبقاء فى الحياة السياسية الأوروبية لفترة ليست بالقصيرة.

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات