منذ أن تحولت مصر عن نظام الاستفتاءات على منصب رئيس الجمهورية عام ٢٠٠٥، وأصبح من الممكن ــ على الأقل نظريا ــ أن تشهد انتخابات الرئاسة مرشحا بديلا أو أكثر من مرشح، دائما ما كانت تطرح قضية «البديل»، ومدى كفاءة هذا البديل فى حكم البلاد كأحد أهم الأسئلة ذات الطابع الاستنكارى فى السياسة المصرية. بعبارة أخرى، فإن الناخبة والناخب المصرى، وبغض النظر عن مواقفهما السياسية وخلفياتهما الاجتماعية وتحيزاتهما الأيديولوجية كانا دائما ما يتساءلان إن كان المرشح الفلانى أو العلانى من الممكن بالفعل أن يقدر على مسئوليات الدولة بديلا عن الرئيس الحالى!
هذا السؤال مفهوم فى ظل تاريخ النظام السياسى المصرى الحديث، الذى كان قبل هذا العام (٢٠٠٥)، قائما على توريث سلطة رأس الدولة داخل أسرة محمد على منذ ٢٠ يوليو ١٨٤٨ عندما ورث إبراهيم باشا العرش عن أبيه، وحتى فؤاد الثانى ملك مصر الرضيع الذى تولى السلطة اسميا فى ٢٦ يوليو ١٩٥٢ خلفا لأبيه المخلوع، حتى انتهى التوريث رسميا بانتهاء العصر الملكى فى ١٨ يونيو ١٩٥٣ حيث تولى مجلس قيادة الثورة الحكم وعين محمد نجيب رئيسا للبلاد، ثم دخلت مصر عصر الاستفتاءات الرئاسية منذ استفتاء ٢٥ يونيو ١٩٥٦ على رئاسة عبدالناصر!
ولأن التوريث لم يكن فيه بدائل أمام الشعب ــ رغم وجود بدائل أمام الدولة العثمانية والاحتلال الإنجليزى وتدخلهما فى هذا الشأن ــ ولأن الاستفتاءات لم تكن تطرح فكرة البديل، فأنت إما أن تقول (نعم) أو (لا) أمام خانة المرشح ــ تقول النكتة الشعبية التى لا تخلو من حكمة، أن الاختيارات الحقيقية كانت بين (نعم) و(نعمين) ــ فإن عام ٢٠٠٥ كان الوضع برمته جديدا على الشعب المصرى، لأنه وللمرة الأولى أصبح هناك بدائل على الأقل على الورق!
• • •
بعد قيام ثورة يناير ٢٠١١ ظل التساؤل مطروحا أمام قطاع كبير من الشعب المصرى، فرغم أن الاستفتاء الدستورى الذى جرى فى ذلك العام قد رسم خريطة طريق تقدم الانتخابات البرلمانية على الانتخابات الرئاسية، إلا أنه ونظرا لأهمية المنصب فى الثقافة المصرية فقد ظل السؤال المطروح هو «من هو هذا البديل الذى يمكن أن يتولى رئاسة مصر بعد هذه السنوات الطويلة من حكم مبارك؟!».
جرت انتخابات الرئاسة عام ٢٠١٢ فى أوضاع سياسية ملتهبة وملتبسة، وأفضت إلى اختيار الرئيس الأسبق محمد مرسى بعد صراع انتخابى شرس وبعد حسم لم يحدث سوى من الجولة الثانية وهو أمر كان ــ ولا يزال حتى اللحظة ــ غير مسبوق فى تاريخ الجمهورية، ولكن حدث ما حدث من مرسى ومن الإخوان، وانتهى الأمر بإزاحته من الحكم فى ٣ يوليو ٢٠١٣، ورغم أن الانتخابات الرئاسية قد استمرت بصيغة التعددية من الناحية الدستورية بعد ٢٠١٣، إلا أن البيئة السياسية قد تغيرت بشدة وعاد السؤال الاستنكارى عن البديل ليطرح نفسه مرة أخرى منذ انتخابات ٢٠١٤ بعد انتهاء فترة الرئيس المؤقت عدلى منصور وترشح حمدين صباحى ضد عبدالفتاح السيسى فى انتخابات لم تكن متكافئة لاعتبارات كثيرة، كان من أهمها أن السيسى كان قد اكتسب شرعية شعبية جارفة قائمة على مبدأ التفويض حتى من قبل الاحتكام إلى صندوق الانتخابات الذى حسمه بسهولة فى يونيو من ذلك العام!
ولذلك لم يكن مستغربا أن تجرى انتخابات ٢٠١٨ بنفس الصيغة حيث لا تكافؤ بين المرشحين، لأن أصل الشرعية كان ولا يزال قائما على فكرة التفويض والثقة فى الرئيس السيسى لا الاختيار من بين متعدد، ورغم أن هناك من حاول بالفعل أن يطرح نفسه كبديل فى هذه الانتخابات، إلا أن ظروف توازنات القوة على الأرض لم تسمح بهذه المساحة التعددية وقتها!
أما الآن ونحن بصدد انتخابات رئاسية جديدة، ووجود بعض المرشحين المحتملين أمام الرئيس الحالى، فقد عاد السؤال الاستنكارى مرة أخرى عما إذا كان أيا ممن يطرح نفسه فى هذه الانتخابات قد يصلح بالفعل كبديل وخصوصا فى ظل تصاعد التحديات الاقتصادية فى مصر وشعور المواطنة والمواطن بصعوبات تواجه الحياة اليومية كانت مخالفة لما كانا يتمنيانه ويعتقدانه ويتوقعانه خلال السنوات السابقة، وفى ظل بعض الحلحلة فى المشهد السياسى والمتمثل فى إجراء الحوار الوطنى والإفراجات عن المئات من المحبوسين احتياطيا أو نهائيا، كانت كلها أمورا جعلت لسؤال البديل بعض البداهة هذه المرة لأنها لم تتوافر فى انتخابات الرئاسة التى جرت فى ٢٠١٨!
• • •
الحقيقة أن سؤال البديل رغم أهميته سواء كان يتم طرحه بشكل استفهامى أو استنكارى، لابد من الإجابة عليه فى ظل تحليل أشمل وأعم للبيئة السياسية التى توفر ــ أو لا توفر ــ هذا البديل! بعبارة أخرى، وحتى يتم الإجابة بشكل عميق وصحيح على مدى صلاحية البدائل لحكم مصر، فلابد أن نوسع دائرة التحليل ولا نكتفى باللحظة السياسية الراهنة التى تتم فيها «إجراءات» العملية الانتخابية، لنتحدث عن ظروف البيئة السياسية خلال السنوات الماضية!
فالبديل لا يولد فى يوم وليلة، ولأن دولة مثل مصر لم تشهد ديموقراطية حقيقية لفترات طويلة ومتصلة، فإن قصة البديل لابد وأن تعالج بشكل مختلف! قد تعتقد أن فلانة أو فلانا لا يصلحان كبديل للرئيس ولحكم مصر بكل أزماتها ومشكلاتها سواء لأنهما لا يتمتعان بشعبية كافية، أو لأنهما من خارج (دولاب) الدولة وأجهزتها وبالتالى لا يعرفان كيف تحكم الأمور، أو لأنهما لا يتمتعان حتى بشعبية كافية داخل تياراتهما بدليل أن أكثر من بديل مطروح من نفس التيار السياسى الذى لم يتمكن ــ على الأقل حتى اللحظة ــ من التكتل خلف مرشح واحد، أقول قد تكون كل هذه أسبابا وجيهة للاعتقاد الصادق بأن هؤلاء لا يصلحون كبدائل، لكن تظل هذه الإجابة ناقصة لأنها لا تأخذ فى اعتبارها أن البدائل لا تولد بين عشية وضحاها، بل هى عملية طويلة تتطلب حدا أدنى من التعددية والمساحات السياسية التى يمكن فيها المنافسة وطرح الأفكار والسياسات واختبار صلابة الشخصيات وقدراتها القيادية وخطاباتها السياسية.. إلخ!
فعلى سبيل المثال، حينما تجرى انتخابات الرئاسة، أو رئاسة الوزراء فى الدول الديموقراطية ــ رئاسية كانت أو برلمانية ــ فإن البدائل لا تولد ولا يتم الحكم عليها فقط عند بدء إجراءات الانتخابات، ولكنها عملية طويلة تأخذ سنوات فى ظل بيئة سياسية قد لا تكون مثالية ولكنها تتمتع بحد أدنى من الضمانات الدستورية والفعلية لفكرة التعدد وحرية الرأى والفكر التى تنتج فى النهاية أجيالا متعاقبة من الساسة يتم فرزهم بشكل طبيعى داخل أحزابهم وتياراتهم عبر اختبارهم فى عشرات المناصب التنفيذية والإدارية والتشريعية عبر عقود من الزمان حتى يتمكن أحدهم (إحداهن) من إثبات نفسه (نفسها) كمرشح (كمرشحة) بديل (بديلة) وهكذا!
بالنظر مثلا إلى تاريخ أوباما، أو أنجيلا ميركل أو مارجريت تاتشر، أو رونالد ريجان، أو لولا دا سيلفا أو غيرهم، فإن طرحهم كبدائل أمام الناخبات والناخبين فى بلادهم لم يحدث بين عشية وضحاها، بل كان نتيجة لبيئة سياسية وفرت حدا أدنى من التعددية والتنافس وحياد أجهزة الدولة جعل هناك عملية فرز طويلة لهم سواء داخل تياراتهم وأحزابهم أو أمام جماهيرهم، بداية من عمليات الفرز على المستويات المحدودة (كانتخابات اتحادات الطلاب أو اللجان الحزبية أو انتخابات النقابات) وصولا إلى المستويات العليا للفرز على مناصب رئاسة الحكومة أو الدولة!
عملية صعبة ومرهقة وطويلة ويسقط فيها كثيرون، ولكنها عملية مستمرة تحافظ على فرص التنافس وطرح البدائل أمام الجميع بشكل محايد أو على الأقل به حد أدنى من الحياد! هذا ما لا يزال تفتقده مصر، فعوامل مثل الحياد والاستمرارية لا تزال غير متاحة، ذلك أن الانتخابات لدينا مازلت تجرى وفقا لفكرة «المواسم» بمعنى أنها عملية متقطعة ولا تتمتع بالاستمرارية وهذه هى الشروط اللازمة كى يتم طرح سؤال البديل والإجابة عليه بشكل دقيق وعادل، وحتى ذلك الحين فستظل الانتخابات فى مصر أقرب لروح الاستفتاء أو الاستدعاء أو التفويض لا الاختيار من متعدد!