«الشروق» تنشر حلقات من الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى «2»: هزيمة يونيو أثبتت أن حكم الفرد لا يمكن أن يحقق التقدم والأمن - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 3:38 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«الشروق» تنشر حلقات من الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى «2»: هزيمة يونيو أثبتت أن حكم الفرد لا يمكن أن يحقق التقدم والأمن

عمرو موسى مع عبد النالصر وعبد الحكيم عامر والسادات وزكريا محيي الدين وصلاح نصر في الهند عام 1966
عمرو موسى مع عبد النالصر وعبد الحكيم عامر والسادات وزكريا محيي الدين وصلاح نصر في الهند عام 1966
كتب - خالد أبو بكر:
نشر في: الإثنين 11 سبتمبر 2017 - 10:27 م | آخر تحديث: الإثنين 11 سبتمبر 2017 - 11:09 م
- التقيت عبدالناصر مرتين فى حياتى وأرى أنه قامر بمستقبل مصر فى 1967

- امتنعت عن حضور اجتماعات «التنظيم الطليعى» بعد الهزيمة ولم يسأل عنى أحد

- 5 يونيو بداية طريق طويل انتهى بثورة 25 يناير

- الأمم المتحدة تحولت لساحة احتفال عربية بعد عبور قواتنا قناة السويس سنة 1973

- حدث توارد خواطر بينى وبين السادات بشأن التفاوض المباشر مع إسرائيل ونجل المشير أحمد إسماعيل شاهد على ذلك 

- اعتراف وكالات الأنباء بأن البيانات العسكرية المصرية تحظى بالمصداقية كان مدعاة للفخر 

- تعرضت للتهميش فى عهد محمد إبراهيم كامل ولم أشارك فى مفاوضات كامب ديفيد

تواصل «الشروق» نشر حلقات من الجزء الأول من مذكرات الدبلوماسى والسياسى العربى المرموق عمرو موسى، الذى يغطى الفترة من ميلاده سنة 1936 إلى نهاية عمله وزيرا للخارجية فى 2001؛ والمنتظر صدوره قريبا عن «دار الشروق»، ضمن ثلاثة أجزاء تحمل عنوان «كِتَابِيَهْ» هى مجموع المذكرات، التى قام بتحريرها وتحقيقها وتوثيقها الكاتب الصحفى خالد أبو بكر، مدير تحرير جريدة «الشروق».


اضغط هنا لقراءة الحلقة الأولى

وفى هذه الحلقة من الكتاب ــ الذى يحوى بين دفتيه 654 صفحة من القطع المتوسط، والذى استمد موسى عنوانه من الآية الكريمة «فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ» (الحاقة ــ 19) ــ يستعرض موسى فيها شهادته على الحقبة الناصرية، وهزيمة 1967 وانتصار العرب فى أكتوبر 1973، وتوارد أفكاره مع الرئيس أنور السادات بشأن حتمية التفاوض المباشر مع الإسرائيليين لاستكمال تحرير الأرض. ونشدد على أن ما يرد فى هذه الحلقة ــ وكذلك بقية الحلقات ــ وإن جاء على لسان السيد عمرو موسى بصيغة المتكلم إلا أنه فى الحقيقة اختزال شديد جدا للنص الأصلى بتفاصيله الكثيرة والجديدة والمشوقة فى آن واحد. 

التقيت عبدالناصر مرتين فى حياتى. الأولى كانت فى 21 أكتوبر 1966 فى نيودلهى، عندما ذهبت مع وفد ترأسه هو للقاء إنديرا غاندى، بعد توليها رئاسة وزراء الهند. فقد تقرر عقد قمة ثلاثية لإنديرا مع عبدالناصر والرئيس اليوغوسلافى جوزيف تيتو، قطبى عدم الانحياز دعما للزعيمة الجديدة للهند. جلست أنا وعبدالرءوف الريدى خلف الرئيس لنكتب محضر اجتماعه مع إنديرا غاندى.

المرة الثانية كانت أثناء عملى بمكتب وزير الخارجية، محمود رياض، قبل هزيمة يونيو 1967م بأيام، وهو التاريخ الذى أعتبره نهاية صولجان عبدالناصر وبداية لتدهور الأحوال المصرية. قبل بدء الحرب قرر عبدالناصر إغلاق خليج العقبة، وسحب القوات الدولية من سيناء، وأغرق البلاد بأجواء تعبوية كبيرة. أذكر أن من بين الشعارات التى تم ترديدها فى الإعلام خلال هذه الفترة «العقبة قطع رقبة»، فى إشارة لمصير أى قوة إسرائيلية تحاول المرور من خليج العقبة بالبحر الأحمر. (التفاصيل الكاملة موجودة بالكتاب).

حدث ما حدث فى 5 يونيو، فأصبت بإحباط مهول. كنت حزينا جدا، مبعث حزنى أننى كنت قد بدأت أتلمس الحقيقة بعد مضى عدة ساعات لاندلاع القتال. كنا فى مكتب الوزير نعرف أن إذاعتنا وصحافتنا تكذب بشأن حجم الطائرات التى يتم الإعلان عن أننا أسقطناها؛ لأننا نستمع إلى إذاعات أجنبية كثيرة، ونطلع بانتظام على تقارير وكالات الأنباء ذات المصداقية، وكلها أجمعت على تقدم القوات الإسرائيلية فى سيناء.

بعد يومين من القتال كانت حقائق الموقف قد تبلورت أمام وزير الخارجية محمود رياض ومدير مكتبه السفير محمد شكرى، الذى رأيته خارجا من مكتب رياض قبيل ظهر 7 يونيو وهو فى حالة بكاء هيستيرى. وقع الرجل على الأرض مغشيا عليه من هول الصدمة على الرغم من رباطة جأشه المعروفة عنه، حيث كان ضابطا سابقا بالجيش. هنا بالضبط تيقنت بأن شكوكنا بشأن حدوث كارثة كبيرة قد تأكدت.

ساعدت شكرى بدعم من بعض العاملين فى المكتب على الوقوف حتى أفاق. أمرت السعاة بالانصراف، والرجل غير قادر على التوقف عن البكاء. سألته عما جرى، فقال: «كارثة.. اليهود وصلم قناة السويس». أصابتنى صدمة كبيرة وإحساس بالمهانة والإحباط على الرغم من أن كل الشواهد كانت تشير إلى وقوع هذه المصيبة. بدأنا نقول لأنفسنا إن الذى يجعل الكارثة تصل لهذا الحجم هو أننا بالتأكيد لم نكن مستعدين، وأن القرار السياسى الذى أدى إلى الحرب كان بالقطع خاطئا، وحساباته غير دقيقة، وتوقعاته غير سليمة تكاد تصل إلى حد المقامرة. لم يكن يصح أن نعَرض بلدنا لهذا التحدى المدمّر!.

غادر الوزير إلى اجتماع ما فى الأيام الأولى بعد تلك الكارثة الوطنية، وأغلق السفير شكرى مكتبه ليستريح بعض الشىء. ودخلت بمفردى غرفة الاجتماعات الملحقة بمكتب الوزير. رصصت 4 كراسى بجوار بعضها كى أستطيع أن أستلقى عليها من فرط التعب والإرهاق. شعرت بإنهاك وإجهاد غير عادى. استلقيت على الكراسى وشبكت كلتا يدَىّ وأسندت بهما رأسى، وعيناى شاخصتان فى سقف الحجرة، ورحت أفكر بعمق. 

صحيح كانت هناك انتقادات كثيرة لبعض الأوضاع، لكننى فى هذه الفترة من حياتى (31 سنة) لم أكن أنصت إليها، أو أقتنع كثيرا بها، مثل تراجع الإنتاجية الزراعية بعد تفتت الرقعة الزراعية على صغار الفلاحين فى الإصلاح الزراعى. كانت هناك شكاوى من تدخل البعض بتشويه بعض الحقب التاريخية على حساب أخرى، مثل تلك التى سبقت ثورة 23 يوليو 1952م، وكأن كل الأوضاع قبلها كانت شرا مستطيرا. كانت الأنباء تترى عن وجود صراعات بين القيادة السياسية الممثلة فى عبدالناصر، والقيادة العسكرية المتمثلة فى المشير عبدالحكيم عامر. كانت هذه من الأمور التى تبعث على قلق النخبة (على الأقل)، فضلا عما تواتر عن قمع أى بصيص للمعارضة، وما عرف عن تدجين الصحافة. كل ذلك شريط مر أمامى وأنا ملقى على كراسى غرفة الاجتماعات.

رحت أفكر.. كيف لهذه الهالة وهذه الأحلام البازغة أن تتحول إلى سراب؟!. كانت الهزيمة ثقيلة جدا، مهما حاول البعض من التخفيف منها بتسميتها «نكسة»؛ لأنها كانت هزيمة بكل معنى الكلمة، وكان من مقتضى هذه الهزيمة أن عددا كبيرا من الشباب ــ وأنا منهم ــ راح يتساءل من هول الصدمة: هل كنت مخطئا فى هذا التأييد العارم للنظام؟ هل اهتمام عبدالناصر بوضعه الخارجى على حساب الأوضاع الداخلية والبنية التحتية بمعناها المادى ومعناها المرتبط بالإنسان هو الذى قادنا إلى هذه الهزيمة؟. هل اعتبر الرئيس أنه أكبر من مصر؟ أم اختلط عليه الأمر فاختصر مصر فى شخصه.. ما هو جيد له جيد لمصر وربما ليس العكس؟. كان رأيى أن عبدالناصر مسئول كلية عما حدث. لقد كان 5 يونيو بداية طريق طويل انتهى بثورة 25 يناير 2011، ولا يقدح فى ذلك دور الرئيس السادات ونجاحه فى حرب أكتوبر؛ لأن ذلك لم يقترن بإصلاح واعٍ وشامل لأمور مصر.

انضممت خلال الحقبة الناصرية بـ«التنظيم الطليعى»، غير أن دورى فيه لم يكن كبيرا. الذى ضمنى إليه هو السفير فتحى الديب خلال عملى معه فى السفارة المصرية فى سويسرا. كان ذلك فى أوج سطوع نجم عبدالناصر خلال الثورة الجزائرية، التى كانت فى قلب السياسة الخارجية المصرية فى أوائل السيتينيات. عندما عدت إلى مصر من سويسرا أصبحت عضوا فى إحدى المجموعات التى كان مقررها السفير محمد شكرى. كانت النقاشات تتم حول السياسة الخارجية والأوضاع الداخلية والتصنيع، وكيف أننا نجحنا فيه «من الإبرة للصاروخ»، ولم نسأل أنفسنا ماذا نعنى بالإبرة والصاروخ؟.. خصوصا أن الأبرة وقتها لم تكن مصنوعة بشكل جيد، والصابون لم يكن يحدث رغوة، ولا «البشاكير» تجفف كما يجب!. 

كانت مثل هذه الملاحظات على الصناعة تترسب فى النفس دون أن نشعر بها، لكنها مع الكثير من السلبيات الأخرى التى لم نتوقف أمامها من قبل صغيرة كانت أم كبيرة انفجرت مع الهزيمة وفقد سيناء. فى هذا الوقت أدركت أن حكم الفرد لم ينجح فى الحفاظ على تقدم البلاد وتحقيق رخائها أو أمنها خصوصا إذا كان مع شخص مهول مثل عبدالناصر، يمكن أن يؤدى بالبلد بقرار منفرد منه إلى مصير مجهول كما حدث بالضبط فى 5 يونيو. لم أحضر أى اجتماع للتنظيم الطليعى بعد 5 يونيو، ولم يسأل عنى أحد.

• انتصار أكتوبر 1973

طيلة السنوات الأربع (1960 ــ 1964م) التى قضيتها فى سويسرا لم أنس قط أن خيارى الأول فى العمل الدبلوماسى هو العمل فى وفد مصر الدائم بالأمم المتحدة؛ ولذلك عند عودتى من برن، وعملى لمدة 4 سنوات بمكتب الوزير كنت مصرا على أن تكون وجهتى الخارجية التالية إلى هذه المنظمة الدولية الأكبر فى العالم. فى سبتمبر 1968م صدر قرار بتعيينى عضوا فى وفدنا الدائم لدى الأمم المتحدة، اختارنى السفير محمد عوض القونى، مندوب مصر الدائم فى ذلك الوقت لأعمل مع ممثل مصر فى اللجنة الثالثة، من لجان الجمعية العامة للأمم المتحدة الرئيسية، والخاصة الخاصة بالمسائل الإنسانية وحقوق الإنسان.

بدأ نجمى يبزع فى أروقة هذه المنظمة الدولية الكبيرة خلال عملى بهذه اللجنة التى زادت أهميتها بعد أن قررت الدول العظمى وقف مناقشة موضوع الشرق الأوسط فى الجمعية العامة للأمم المتحدة ولجانها، كى يتركوا الفرصة للسياسيين للعمل بعيدا عن الضغوط فى إطار مفاوضات واتصالات دبلوماسية، على أن تستمر مناقشة ما يتعلق بالجانب الإنسانى فى الصراع بين العرب وإسرائيل فى اللجنة الثالثة باعتبارها المعنية بالجوانب الإنسانية وحقوق الإنسان. من حسن الحظ أننى أصبحت مندوب مصر الرسمى الأول فى هذه اللجنة، وهنا كان التدريب الحقيقى على النقاشات العامة وضبط تشعبها، وصياغة القرارات، والدفوع المتعلقة بالإجراءات، ومناقشة الأمور الحساسة فى القضية الفلسطينية. بجانب أننى نجحت فى تكوين «لوبى» داخل هذه اللجنة من الدول العربية والإفريقية ومجموعة عدم الانحياز، كانت له الكلمة الفصل فى مناقشات هذه اللجنة. (تفاصيل ما قدمه السيد موسى داخل هذه اللجنة موجودة بالكتاب).

أنهيت فترة خدمتى الأولى فى وفد مصر الدائم بالأمم المتحدة، وعدت إلى مصر فى 29 ديسمبر سنة 1972م، للعمل فى مكتب وزير الخارجية. فى 25 سبتمبر 1973م سافرت ضمن الوفد الذى رافق وزير الخارجية، الدكتور محمد حسن الزيات إلى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك. مضت الأمور عادية فى أروقة المنظمة الدولية الأكبر حتى مساء يوم 5 أكتوبر؛ فالأجواء فى نيويورك كانت تشير إلى أن شيئا ما قد يحدث فى الشرق الأوسط، مع تواتر أحاديث عن حشود عسكرية عربية وحشود إسرائيلية مضادة، لكننى بعد أن رجعت من حفل الإفطار الرمضانى الذى نظمه الدكتور عصمت عبدالمجيد المندوب الدائم لمصر فى الأمم المتحدة ــ آنذاك ــ للوزير وأعضاء الوفد المصرى بمنزله (يوم 9 رمضان 1393هـ/ 5 أكتوبر)، وبعد أن أنهيت بعض الأعمال خلدت إلى النوم نحو منتصف الليل. أيقظنى تليفون وكيل وزارة الخارجية، الدكتور أحمد عثمان عند السابعة والنصف صباحا بتوقيت نيويورك.

قال عثمان بلهجة سريعة «عمرو.. عمرو.. اصحى بسرعة.. الحرب قامت فى جبهة قناة السويس ويبدو إننا ماشيين كويس». انتفضت من على سريرى وأنا أقول له: «إوعى يكون نفس البيانات بتاعت زمان، وأننا أسقطنا 70 طيارة و80 طيارة». قال لى: «ربنا يستر.. تعالى بسرعة الوزير عامل اجتماع للوفد كله».

أعددت نفسى بسرعة البرق، وهرعت إلى مقر البعثة الذى يبعد بنحو 300 متر عن فندق «هامبتون هاوس» الذى أقيم فيه. بمجرد وصولى وجدت عثمان أمامى. كانت الساعة قد اقتربت من الثامنة صباحا (الثالثة بعد الظهر بتوقيت القاهرة). قال لى أنباء الحرب حقيقية، ويبدو أن قواتنا المسلحة قد بدأت عبور القناة. بدأنا نفرح لكن بحذر إلى أن يتم تأكيد المعلومات. ولما بدأت وسائل الإعلام الأمريكية ووكالات الأنباء العالمية تؤكد من إسرائيل أخبار عبور الجيش المصرى لقناة السويس وتقدمه بطول الجبهة عمت الفرحة أوساط الوفد المصرى.

كان من دواعى سرورنا وفرحتنا العارمة أن وكالات الأنباء نفسها تقول إن «البيانات المصرية تبدو عليها الرصانة وعدم الاضطراب، بشأن عبور القوات المصرية للضفة الشرقية للقناة، وأنها تحظى بمصداقية فيما يخص الإعلان عن الخسائر وما حققته على الأرض من مكاسب». أصبح مقر البعثة المصرية قبلة للوفود العربية والإفريقية والدول الصديقة، فى حالة من الفرح الجماعى بما حققه الجيش المصرى، بعد أن كدنا نفقد ثقة العالم فى قدراتنا العسكرية، فى وقت وصل الصلف الإسرائيلى منتهاه.

عندما انعقد مجلس الأمن فى 8 أكتوبر، كانت القوات المسلحة المصرية قد أتمت عبورها إلى الشط الشرقى لقناة السويس، وصدت بمنتهى القوة الهجوم المضاد الرئيسى للعدو فى اليوم السابق، وهو ما انعكس بشدة على أدائنا أثناء جلسة مجلس الأمن، الذى دخلناه ونحن نشعر بقوة لم نشعر بها منذ احتلال أراضينا سنة 1967. جلس الزيات على رأس الوفد المصرى، وخلفه عصمت عبدالمجيد، المندوب الدائم، وأنا فى مقعد المشكو فى حقه، وجلس مندوب إسرائيل ومرافقين له فى مقعد الشاكى. جاءت لى ورقة من المستشار الصحفى يخطرنى فيها أن «خط بارليف قد سقط، وأن قواتنا تتمسك بمواقعها شرق القناة، وما معناه أنها صدت الهجوم المضاد الرئيسى للعدو، وأن عددا كبيرا من الجنود الإسرائيليين وقعوا فى الأسر». 

أعطيت هذه الورقة للزيات، فقال لى اذهب وأعطها للسكرتير العام للأمم المتحدة كورت فالدهايم، الذى أعلن النبأ أثناء انعقاد الجلسة. وأثناء عودتى إلى مقعدى عشت أسعد لحظات حياتى. كانت الشرفات تضج بالفرحة العربية، كان بعض الدبلوماسيين يبكون بطريقة هيستيرية فرحا بالانتصار العربى على الغطرسة الإسرائيلية. 

قلت: سبحان الله! فى ظرف 6 سنوات تغير الموقف من شرفات تهلل لانسحاب الجيش المصرى من سيناء وطلب وقف إطلاق النار فى يونيو 1967 وكانت الشرفات مليئة بيهود نيويورك، إلى شرفات تهلل لسقوط خط بارليف نهائيا فى 8 أكتوبر 1973 فى أيدى القوات المصرية. خطب الوزير الزيات خطبة فى منتهى البلاغة والمنطق تليق بالنصر المصرى. كان مفوها سواء تحدث بالعربية أو بالإنجليزية. قوبلت كلماته بالتصفيق الحاد من الشرفات، بل ومن عدد من الوفود على الرغم من أن ذلك لم يكن من تقاليد المجلس، ولكن يهود نيويورك صفقوا فى يونيو 1967 وجاء دورنا لنصفق. (يضم الكتاب مجموعة من الوثائق التى تبرز كيف أدار الوفد المصرى المعركة الدبلوماسية فى أروقة الأمم المتحدة خلال حرب أكتوبر 1973).

بعد سريان وقف إطلاق النار تعزز شعورنا بأن الاتصال بين الرئيس السادات ووزير خارجيته الزيات لم يكن كما يجب أن يكون الاتصال بين رئيس جمهورية ووزير خارجيته فى وقت تخوض فيه بلادهما حربا شرسة لتحرير الأرض. كان واضحا أن السادات على وشك تغيير الوزير واختيار إسماعيل فهمى، الذى ظهر أنه يعتمد عليه بشدة فى هذه الأثناء.

وهنا يطرح السؤال نفسه: هل كان الوزير الزيات يعلم بموعد حرب أكتوبر قبل سفره إلى نيويورك؟ وهل كان فى الصورة بالكامل من الاتصالات السرية بين السادات وكيسنجر؟ أنا أعتقد بأن الوزير لم يكن بعلم بموعد بدء القتال، كما أنه لم يكن فى الصورة بالكامل من الاتصالات السرية.. لماذا؟ لأن بناء الإدارة المصرية وتوجهاتها ــ خلال هذه الفترة ــ لم يكن يهتم بأن ينفق وقتا كافيا لوضع وزير الخارجية فى الصورة، خصوصا أن وزيرا آخر (هو الوزير القادم إسماعيل فهمى) أصبح قائما بأعمال وزير الخارجية الموجود فى نيويورك لتمثيل مصر فى المعركة الدبلوماسية التى كانت قد بدأت بالفعل، وخاصة عند الاحتياج إلى وقف إطلاق النار أو إلى دور ما، إلا أننى أعتقد أيضا أن الاتصال الوحيد كان يتم من حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومى ليضع الزيات فى الصورة تليفونيا(!). 

• توارد الأفكار مع السادات

مضت الأيام بعد فض الاشتباك الثانى فى سبتمبر من سنة 1975م، رتيبة، وساطات كثيرة بيننا وبين الجانب الإسرائيلى من دون فائدة أو تقدم يذكر. فى هذه الأثناء ــ أو بعدها بقليل ــ لاحظت التوتر يتسلل إلى الوزير إسماعيل فهمى. بدأ الرجل يشعر بصورة أو أخرى بأن الرئيس يرتب لشىء ما من وراء ظهره، ومن هنا بدأت ظلال من الشك بين الرئيس ووزير خارجيته منذ أواخر 1976 وأوائل 1977. بدا أن مفترق طرق قادم فى العلاقة بين الرجلين يلوح من بعيد.

جاء موعد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر 1977م. سافرت ضمن وفد مصر مع الوزير فهمى. فى هذا الوقت.. ونحن فى الجمعية العامة ترسخت فى نفسى قناعة نتيجة للمتابعة الدقيقة لمجريات الأمور مؤداها بأنه لا فائدة من كل الوساطات التى تتم بيننا وبين الإسرائيليين، سواء من اللجنة الرباعية، التى كانت ترفع تقارير إلى السكرتير العام للأمم المتحدة، أو تلك التى يقوم بها الأمريكيون مع السادات، وغيرها، وأنه لا سبيل إلا بالتفاوض المباشر مع تل أبيب.

كان التفكير بهذه الطريقة عن لقاءات مباشرة مع الإسرائيليين فى هذا الوقت المبكر بعد حرب شرسة دارت على جبهة قناة السويس ضربا من المجازفة غير المحمودة إذا تمت المجاهرة به، لكننى كدبلوماسى محترف قرأت الواقع فوجدت أننا نسير فى حلقة مفرغة، وما دمنا قد أدينا واجبنا بكفاءة نادرة على جبهات القتال فإنه آن للدبلوماسية أن تخوض معركتها وجها لوجه كما تحرك السلاح وجها لوجه. 

أول من عبرت له عن قناعتى بضرورة التفاوض المباشر مع الإسرائيليين، السفير محمد إسماعيل، (السكرتير الثالث فى ذلك الوقت) نجل المشير أحمد إسماعيل، وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة المصرية، إبان حرب أكتوبر. كان إسماعيل عضوا فى بعثة مصر بالأمم المتحدة وفى يوم من أيام وجودنا فى نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة دعوته لأن يمشى معى فى حديقة الأمم المتحدة لنسرى عن أنفسنا ونتحدث فى بعض الأمور. كان يستعد للسفر إلى القاهرة لتوصيل رسالة يدا بيد من إسماعيل فهمى إلى السادات عن انطباعات الوزير ونتائج اتصالاته والإعداد للقاء كارتر.

سألنى إسماعيل عن رأيى فى مسار التفاوض مع الإسرائيليين بعد أن سكتت المدافع على الجبهة. قلت: «يا محمد كل ما نقوم به بلا جدوى.. لابد من اتصال مباشر الآن بيننا وبين إسرائيل. أرى أن نطرح هذا الأمر للمناقشة فى وزارة الخارجية وعلى مستوى صناعة القرار فى الدولة بكاملها. 

الأمور يا محمد وصلت إلى نقطة الصفر. ما نسمعه من السكرتير العام للأمم المتحدة فالدهايم (كلام فاضى)، وما نسمعه من الأمريكان (كلام غير واضح فى منطلقاته وغير مضمون فى نتائجه) وما نسمعه من السوفييت لن يؤدى إلى شىء؛ ولذلك لا أرى فائدة لـ(القومسيونجية) أى السماسرة، إذا كانت الأمور على هذا النحو دعونا نتفاوض بشأن أراضينا مباشرة مع الإسرائيليين».

من المفارقات أن ما كان يدور فى ذهنى فى هذه الفترة كان هو ما كان يدور فى عقل الرئيس السادات، وطبعا لم تكن هناك أى لقاءات أو أحاديث جرت مع الرئيس فى هذا الشأن، فموقعى فى وزارة الخارجية لم يكن يتيح لى الالتقاء به، لكن يمكن اعتبار ذلك نوعا من توارد الخواطر بين رجلين.. كل بقدر طبعا. كان تفكيرى منصبا على تواصل ما لأجهزة الدولة المصرية مع نظيرتها الإسرائيلية للبحث عن حلول، أو ربما على مستوى دبلوماسى مؤهل على أقصى تقدير، لكن الرئيس السادات أخرج أفكاره فى شكل درامى: مبادرة للسلام، وزيارة إلى القدس، وهو الذى لم يخطر فى بالى على الرغم من توارد الأفكار بشأن الحوار المباشر. (يضم الكتاب نص شهادة مسجلة للسفير محمد أحمد إسماعيل عن هذه الواقعة).

• محاولات تهميشى بالوزارة

فى 25 ديسمبر 1977 تم تعيين السفير محمد إبراهيم كامل وزيرا للخارجية، وهو المنصب الذى ظل شاغرا منذ استقالة إسماعيل فهمى فى 18 سبتمبر من نفس العام. مع تولى الوزير الجديد منصبه بدأ بتهميش كل من اعتبرهم وبعض مساعديه رجال إسماعيل فهمى فى الوزارة. وكنت بالطبع واحدا منهم؛ وبالتالى لم أكن ضمن المجموعة التى شاركت فى مفاوضات كامب ديفيد. لم يقتصر الأمر على استبعادى من المشاركة فى هذه المفاوضات المصيرية، بل جرت محاولات لإبعادى من منصبى مديرا لإدارة الهيئات الدولية. جاءنى المرحوم عبدالمنعم غنيم، وكان العضو الأقدم فى مكتب الوزير ناقلا إلىّ عرضا لأكثر من منصب، منها: قنصل مصر فى سان فرانسيسكو، والقائم بالأعمال فى أيرلندا. حاولوا تزيين هذه الأماكن فى عينى، لكننى رفضت بشدة.

الأشهر التسعة التى قضاها إبراهيم كامل فى الوزارة كانت من أصعب الفترات التى عرفتها فى مسيرتى المهنية حتى ذلك التاريخ. كان هناك نوع من الغيرة القاتلة تجاهى من المجموعة المحيطة به فأوغروا صدره ضدى، لكنى بكل ما أستطيع حاولت تجنب سهامهم.

فى هذه الأثناء دار حوار بينى وبين صديقى أحمد أبوالغيط، الذى كان يعمل معى فى إدارة الهيئات الدولية، وكان مطلعا على الأمور الخاصة بسياسة التضييق علىّ من قبل المحيطين بالوزير. حدثنى أبوالغيط مؤيدا السياسة التى اتبعتها مشيرا إلى «نظرية الانسحاب والعودة المظفرة للشخصية التاريخية« withdraw and return of the historical figure» للمؤرخ البريطانى الشهير«أرنولد توينبى»، التى وردت فى كتابه «دراسة للتاريخ». قال لى أبوالغيط: «بموجب هذه النظرية فإن انسحابك من المسرح ضرورى انتظارا لعودتك مظفرا مرة أخرى.. إن لك مستقبلا باهرا؛ ولذلك عليك بمقاومة الهجوم عليك بالانسحاب من المسرح لفترة، ثم اشحذ همتك وجهز نفسك وقدراتك لعودة مظفرة»، وقد كان.

انتهت فترة التضييق باستقالة إبراهيم كامل عشية التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد، يوم 16 سبتمبر 1978. بعدها استقل بطرس غالى، وزير الدولة للشئون الخارجية بالوزارة. كان غالى شخصية إيجابية وطنية حرفية، وكثير الاطلاع فى الفلسفة والأدب والموسيقى وغيرها، وفى الوقت نفسه كان السادات يأنس إليه، فوضعه كوزير للدولة للشئون الخارجية.

عين مصطفى خليل رئيسا للوزراء ووزيرا للخارجية فى 5 أكتوبر 1978م، قبيل مباحثات «بلير هاوس». قال خليل لبطرس: «أنا وزير الخارجية «من برَة» فقط، وأنت يا بطرس الوزير الفعلى»، وعندها بدأ غالى البحث عن فريق قوى يعمل معه. هناك من نصحه بالاعتماد على عمرو موسى، وذكره بأن إسماعيل فهمى يعتمد عليه فى أمور كثيرة مهمة حتى أنه عينه استثنائيا مديرا لإدارة الهيئات الدولية، على الرغم من أن درجته لم تكن تسمح بذلك. ومنذ هذه اللحظة بدأ يعتمد علىّ بشدة، خاصة فى الحرب الدبلوماسية ضد الدول العربية التى حاولت عزل مصر بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع إسرائيل.

اقرأ أيضا:

عمرو موسى يحكي قصة صورة جمعته بـ«عبد الناصر»

 



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك