لا أحد بوسعه جازما أن يحسم الإجابة عن سؤال مستقبل السلطة فى مصر.. من سيحكمها وكيف؟
فالصور تتزاحم بحركة أحداثها، وتتناقض فى رسائلها، والحركة إلى المستقبل القريب ملغمة طرقها بكمائن وأفخاخ.
فى زحام الصور ورسائلها تبدو حملة مداهمة (١٧) منظمة حقوقية فى توقيت واحد مدعومة من قوات عسكرية وأمنية موحية برسائل سياسية لها صلة بمستقبل الحكم فى مصر وطبيعة هذا الحكم.. فالتصرف الخشن مع ملف حساس فى هذا التوقيت بالذات يدفع للاعتقاد بأن «السياسى» فيه يسبق «الجنائى»، وأن حسابات السلطة تفوق اعتبارات القانون.
وقد دأب المجلس العسكرى منذ الأسابيع الأولى للثورة على إطلاق اتهامات عامة وغامضة عن تمويلات أجنبية لجهات ومنظمات حقوقية وسياسية ودينية، ولكنه أحجم عن اتخاذ أية إجراءات قانونية أو جنائية. كان التوجه الرئيسى الذى حكم تصرفاته لفترة طويلة نسبيا تجنب الصدام مع أية مكونات فى المجتمع السياسى قبل أن تنزلق السياسات إلى قتل متظاهرين سلميين فى «ماسبيرو» وشارعى «محمد محمود» و«مجلس الشعب».. وهى مواجهات انتقصت بفداحة من سمعة المؤسسة العسكرية.
من هذه الزاوية تبدو حملة المداهمات أقرب إلى تصفية حسابات مع المنظمات الحقوقية، التى لعبت دورا كبيرا فى كشف الانتهاكات والخروقات أمام العالم، ونددت بفشل العسكرى فى إدارة المرحلة الانتقالية.. من زاوية أخرى تبدو هذه المداهمات أقرب إلى عمليات استباقية لإجهاض أية انتقادات من المنظمات الحقوقية لصفقات كواليس تجرى وقائعها تحت السطح حول الدستور وهيئته التأسيسية ودور الجيش فيه، أو إخلاء الميدان من أية جماعات قد تشوش على تقاسم سلطة محتمل.. لكن أخطر ما فى المداهمات توقيتها، وللتوقيت مغزاه فى قراءة الصور، فهى تستبق مليونية ٢٥ يناير فى العيد الأول للثورة، التى من المؤكد أن تشهد حملة انتقادات حادة للعسكرى فى إدارة المرحلة الانتقالية، وأن تسودها دعوات صاخبة لمغادرته السلطة فورا.
الرسالة السياسية الأولى هنا هى رسالة تخويف وإرهاب لمصادر الإزعاج الحقوقى، أو محاولة لإسكات مصادر النيران الحقوقية، ولكن العسكرى يدرك أن ملف المنظمات الحقوقية ملغم، ولا يستطيع أن يمشى طويلا فوق حقوله دون أن تنفجر فيه، وتسحب من رصيد علاقاته الأمريكية والغربية. وهى رسالة تعثرت فى الطريق إلى أصحابها، واجهتها حملات مضادة داخل مصر تمددت سريعا إلى دوائر صنع القرار فى الغرب. بما جعل قاده عسكريون يبلغون الإدارة الإمريكية أن المواجهات مع الجماعات الحقوقية سوف تتوقف.
إنها السياسة وحسابات المصالح إذن، لا القانون والكلام المرسل عن مخططات تقويض المؤسسة العسكرية والدولة المصرية معها.
وكانت الرسالة السياسية الثانية فى حملة المداهمات موجهة للتيار الإسلامى، خاصة حزبى «الحرية والعدالة» و«النور»، ولكنها رسالة ضمنية تتحاشى احتمالات الصدام الآن.
لم تكن فلتة لسان أو انزلاق عبارات خارج سياقها أن تتهم مصادر فى التحقيقات الجماعات الدينية بتلقى تمويلات من دول خليجية تجاوزت أرقامها الـ(٦٠٠) مليون دولار. الأرقام فلكية، وتشكك بذاتها فى نزاهة الانتخابات، وتطرح قضية المال الإقليمى فى تقرير مستقبل الحكم فى مصر، وهى قضية وجهها الآخر المال السياسى الدولى، ولكن الرسالة فى حالة القوى الأسلامية رسالة تطويع.. وفحواها إن لم تمضوا معنا فيما نريده منكم بالضبط، فالمقاصل القانونية جاهزة لقطع الطموحات السياسية فى شراكة السلطة العليا، إنه الترهيب والترغيب فى اللحظة ذاتها، وفى رسالة ضمنية واحدة.
رسالة التطويع وصلت سريعا، ونالت استجابة سريعة، فقد أعلن حزبا «الحرية والعدالة» و«النور» دعم حملة المداهمات ووصفوها بأنها قانونية، وفى التصريحات نفسها قالوا إنهم على استعداد لمداهمات مماثلة وفق القانون لمقارهم!
فى الشق الأول من الخطاب المتلعثم كانت استجابة التطويع كاملة، وفى الشق الثانى من الخطاب ذاته طلب غض طرف. فأى دارس قانون مبتدئ يعرف بيقين أن مقار جماعة إخوان المسلمين جميعها غير قانونية، وأن ميزانياتها لا تخضع لقواعد الحساب والشفافية، فالجماعة لم توفق أوضاعها القانونية بعد ثورة يناير، ولم تسع لنيل ترخيص قانونى كجمعية دعوية لا شأن لها بالسياسة، باعتبار أن هذه المهمة أوكلت إلى ذراعها السياسية.
لا يستقيم فى دولة تنشد الديمقراطية أن تكون هناك مؤسسة أو جماعة فوق القانون وفوق الدولة. وإذا كنا نقول بما يشبه الإجماع الوطنى أنه لا ينبغى للقوات المسلحة أن تكون مؤسسة فوق الدولة، فمن باب أولى ألا تحظى جماعة الإخوان المسلمين بهذه الوضعية!
هذه هى قواعد الديمقراطية ودولة القانون، إلا إذا تصور المرشد أن منصبه كما قال أعلى من منصب رئيس الدولة، فعلى ذات المنوال يمكن للجنرال أن يتصور ولديه فوائض قوة أكبر أنه فوق الدولة، وأن رئيس الجمهورية المدنى المقبل عليه أن يكون رهينة عنده ويستأذنه فى قراراته.
الشواهد تشى بأن هناك شيئا يطبخ فى الكواليس بين العسكرى ، فالمرشد يؤكد مجددا رغم حصته الكبيرة فى البرلمان أن الجماعة لن يكون لها مرشح للرئاسة، وحزب النور يذهب للاتجاه ذاته، والمرشح السلفى «حازم أبوإسماعيل» يقول إنه يتعرض لضغوط للانسحاب من الترشح للرئاسة، لا يعلن تفاصيل أو يكشف جهات ضغط، ولكن المعنى أن تياره يطالبه بالانسحاب، وهذه كلها مقدمات صفقة مع العسكرى حول الرئيس المقبل.. وهو بطبيعة الصفقة من اختصاص العسكرى وحده.
تقاسم السلطة هو السيناريو الأرجح، ولكنه ليس السيناريو الأوحد، فدواعى الصفقة صريحة، واعتبارات الصدام كامنة. العسكرى والإخوانى يحتاجان بعضهما لأسباب عملية، الأول يريد قوة سياسية يستند عليها، وغطاء برلمانى يعتمد عليه فى إصدار التشريعات. والثانى يريد قوة تحمى صعوده للسلطة وتمكنه منها. والتقاسم سوف يمضى وفق قاعدة: الرئاسة للعسكرى والحكومة لائتلاف يقوده الإخوانى.. والدستور رئاسى برلمانى، وهو بهذه المواصفات يرضى الطرفين. ورغم أن الاستشارى أعلن أنه لا صلة له بعملية وضع الدستور، أو تشكيل هيئته التأسيسية، فهذه كلها من صلاحيات البرلمان وحده، ولكن الحقيقة أن العسكرى شريك كامل فى وضع قانون تشكيل الهيئة التأسيسية، وكلف بعض الفقهاء بوضع مسودة أولى لهذا القانون.
ومع كل أجواء التفاهمات، التى وصلت إلى حد اتباع ما يريده العسكرى بحذافيره، فإن لعبة تقاسم السلطة لا تحكمها قواعد، وقد تؤدى الأجواء المضطربة، والصور المتناقضة، إلى سيناريوهات أخرى وحسابات متقلبة تقود بصيغ مختلفة للانقضاض على المشهد كله، وهو مشهد مرتبك ومشوه وبعض وقائعه أقرب إلى اللا معقول، مثل فتاوى تحريم تهنئة الأقباط بأعيادهم، وفى مسارح اللا معقول يصعب أن تتوقع نتائج تتسق مع مقدماتها، أو أن تمضى المرحلة الانتقالية إلى نهاياتها دون مطبات جديدة أو مفاجآت تأخذ المشاهد الأخيرة إلى دروب مختلفة.
ومن الصور التى توحى بسياقات جديدة قد تأخذ المستقبل معها إلى تلك الدروب مشاهد الغضب والاحتجاج على حكم قضائى بتبرئة ضباط أمن متهمين بقتل متظاهرين أمام قسم السيدة زينب أثناء أحداث ثورة يناير.
فى هذه القضية ــ أيضا ــ السياسى يسبق الجنائى. فلم يحدث فى أى ثورة بالتاريخ أن تلكأت السلطات التى خولت إدارة شئون بلادها فى تطهير مؤسسات الدولة، وأولها جهاز الأمن الذى توحش فى سنوات مبارك إلى درجة أن ميزانيته فاقت ميزانية الجيش نفسه، أو استبعدت المحاكمات السياسية لرموز العهد السابق، وأولهم مبارك، على سنوات حكمه الطويلة، التى أنهكت وأضعفت مصر على كل المستويات، بصورة لا مثيل لفسادها فى التاريخ المصرى الحديث كله. جرت محاكمة مبارك باتهامات من بينها حصوله على ثلاث فيللات بأسعار رمزية من متهم آخر معه فى ذات القضية على سبيل الرشوة بحسب منطوق الاتهام، وهو اتهام مضحك يمكن أن يدحضه مبارك بسهولة بالتنازل عن هذه الفيللات!
مشاهد الغضب والاحتجاج بذاتها، التى وصلت إلى التظاهر أمام سجن طرة، وتبادل رشق الحجارة مع قوات الأمن، توحى بأن صدامات أكبر وأخطر قد تحدث مستقبلا، وهذه مقدمات لسيناريو تصفية ثأرات خارج القانون.
عن أى ثورة نتحدث؟!.. ففى الصور يبدو وزير الداخلية الأسبق «حبيب العادلى»، المتهم الرئيسى بقتل ثوار يناير، كأنه فى جولة تفتيشية على قاعة المحاكمة مرتديا بدلة زرقاء دون كلبشات فى يده، بينما وضعت كلبشات فى أيد مصابين بالأحداث الدموية الأخيرة مربوطة بأسرة المستشفيات التى نقلوا إليها!
من يحكم مصر الآن فعلا؟.. وهل تقاسم السلطة مستقبلا بين العسكرى والإخوانى له صلة بالثورة أم بالثورة المضادة؟!