ومنْ لا يحبُ «دون كيخوته»؟! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:35 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ومنْ لا يحبُ «دون كيخوته»؟!

نشر فى : الخميس 2 مايو 2019 - 8:40 م | آخر تحديث : الخميس 2 مايو 2019 - 8:40 م

تتجاوزُ شخصية «دون كيخوته دى لامانشا» زمنها وعصرها، تخرج من الرواية الشهيرة التى كتبها ثيربانتس لتظهر فى أيامنا الراهنة، تتجاوز حتى الشخص الحالم، الذى أراد أن يعيد تقاليد الفروسية، فى زمنٍ بلا فروسية، وبلا فرسان، يصبح الرجل ذو الوجه الحزين فكرة مفقودة، نحلم بها ونتمناها، على الرغم من أن كل شىء يسخر منها، ويراها غريبة، ولكن الفكرة باقية، تتغير الوجوه، ولكن دون كيخوتة يبقى رمزا وأملا.

هذا هو معنى فيلم «الرجل الذى قتل دون كيخوته» الذى أخرجه واشترك فى كتابته تيرى جيليام، الحكاية تبدو بسيطة، مبهجة، وتمزج بذكاء بين الحاضر والماضى، بين شخصيات رواية ثيربانتس، وعلى رأسها دون كيخوته، وبين شخصيات الفيلم، ولكن مغزى الرحلة عميق: إنها تحية للحلم المثالى بأن تكون حياتنا أفضل، بأن تعود فكرة الفروسية، لتقهر عمالقة زمننا الراهن، ولتحارب طواحين البيزنس التى تقتل الفن، الرحلة عن فكرة لا تموت هى الحلم بإنسان أرقى، قادر على أن يقول لا فى مواجهة الخطأ.

لا نفقد فى الفيلم إحساسنا بالواقع الحالى، كما لا نفقد حضور شخصيات الرواية، ومحنة دون كيخوته القديم، تتجسد هنا فى صورة مخرج شاب يُدعى توبى، دخل مفرمة الإعلانات التجارية، إنه يصور الآن إعلانا يظهر فيه دون كيخوته القديم، وهو يُحارب بصورة مضحكة طواحين الهواء، ولكن حصول المخرج الشاب على فيلم تخرجه الذى أنجزه أسبانيا من عشر سنوات، يغير حياته، يذكره بالفن الذى كان، الفيلم نفسه كان بعنوان «الرجل الذى قتل دون كيخوته».

رحلة البحث عن أبطال فيلم التخرج غير المحترفين تكشف عن تمسك الشخصيات بالحلم: خوزيه، صانع الأحذية وبطل فيلم التخرج، صدق أنه دون كيخوته فعلا، فتقمص شخصيته؛ شكلا ومضمونا، بل إنه يطلق على المخرج توبى اسم سانشو بانزا، حامل دروع دون كيخوته فى الرواية، والقروية الفقيرة أنجيليكا، التى لعبت فى فيلم التخرج دور دالسينيا، معشوقة دون كيخوته، صدقت أنها نجمة سينمائية، وذهبت إلى مدريد لتجرب حظها، ولكنها لم تنجح فى أن تحقق شيئا!

الرحلة لا تكشف عن تغير أبطال فيلم التخرج فحسب، ولكنها تُغيِر توبى أيضا، وقوعه فى غرام أنجيلكا، ومرافقته لخوزيه، الذى تقمص دور دون كيخوته، وتأمله لحياته الخاوية كمخرج إعلانات، يخضع لشروط بيزنس مان روسى يمول حملة لمنتجاته، كل ذلك يضع توبى فى مواجهة نفسه، ويكشف له عن تنازلاته الفاضحة.

فى حفلة تنكرية يقيمها رجل الأعمال الروسى، تتجمع كل الخيوط، تختلط مغامرات شخصيات الرواية الشهيرة، بواقع أبطال الفيلم، رجل الأعمال يستغل أيضا دالسينيا، بينما يحاول توبى وخوزيه الدفاع عنها باسم الفروسية، يموت خوزيه بدون قصد، ولكن شخصية دون كيخوته لا تموت، سرعان ما يتقمصها فارس جديد.

ذكاء المعالجة فى هذا الحبل المشدود الذى تسير عليه الشخصيات، فكلما اندمجنا وظننا أننا داخل رواية ثيربانتس، انتقلنا إلى حياتنا المعاصرة، وتم تفسير كل ما رأيناه بشكل منطقى، وكأنها لوحة واحدة، لها ظلال روائية، وأشكال واقعية، محنة دون كيخوته القديم، أصبحت معاصرة، فى صورة مخرج غير قادر على التحقق، وعليه الآن أن يسترد الحلم، من خلال فيلم تخرجه المنسى.

دون كيخوته لم يعد تراثا ماضيا، ولكنه من خلال المعالجة صار ضرورة فى زمننا الجديد، هذا الزمان يستأهل استدعاء الفروسية، ربما بأضعاف ما كان يستحق ذلك عصر ثيربانتس.

الفيلم، الذى عرض فى ختام مهرجان كان 2018، تحية عذبة للحلم، للفروسية المفقودة، للفن الذى هزمته المادة، لكل المعانى التى تعبر عنها الرواية القديمة، نضحك بالتأكيد من مغامراتِ الفارس ذى الوجه الحزين، ولكن تبدو المشكلة فى تغير الزمن، لا فى شرف ونبل مقاصد الفارس، الأزمة فى اغتراب الإنسان عن زمنه، وفى فشل فرد واحد فى أن يغير، تزيد الأزمة مع تعقد الحياة، لم تعد الأشباح وطواحين الهواء محدودة، صارت متنوعة وضخمة، وفى كل مكان.

نضحك على دون كيخوته، ولكننا نحبه، فى داخلنا شىء منه، هكذا شعر خوزيه وتوبى، وما هذا الفيلم إلا محاولة لبعث هذا الشىء، تطالبنا الحكاية، أيضا، بألَّا نخجل أبدا من أن نكون مثل دون كيخوته، مهما تعالت الضحكات الساخرة..

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات