رمضان وأزمة الثقافة - إكرام لمعي - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 3:07 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رمضان وأزمة الثقافة

نشر فى : الجمعة 2 يونيو 2017 - 9:35 م | آخر تحديث : الجمعة 2 يونيو 2017 - 9:35 م
بحلول شهر رمضان يخرج إلى النور الجهد الذى بذل لمدة عام من قنوات حكومية وغير حكومية لتقديم أقوى وأروع البرامج الحوارية وبرامج المسابقات والمسلسلات على كل أنواعها وأشكالها بل والبرامج السياسية والدينية. وتكون المنافسة على أشدها وشيئا فشيئا يبرز مستوى المادة المقدمة ونكتشف مدى ضحالة وتفاهة الكثير منها، ومدى الجهد الذى يبذله المتلقى الجاد فى العثور على مادة سياسية أو ثقافية أو دينية أو حتى ترفيهية يمكن أن يستمتع بها وتضيف إليه الجديد الذى يرتضيه. من هنا تتداول كلمات «تفاهة» و«تافه» وما يشبهها من مصطلحات تستخدم كثيرا فى مجتمعنا، وتطلق على كل من يتناول موضوعا أو قضية ما بطريقة جذابة وقادرة على الوصول إلى الجماهير لكنها فى نفس الوقت لا تقنع المشاهد المثقف العادى فضلا عن المثقف المتمكن من أدواته. وبالعودة إلى القواميس الفلسفية بهذا الشأن نجد تعريف التفاهة أنها «فشل فى تفسير نص عميق الفكر للوصول إلى معناه الحقيقى أو الصحيح إما بسبب الجهل به ومن ثم استخدامه بصورة سطحية أو بتحويل الأمور الجادة المصيرية التى يعبر عنها المصطلح إلى حالة من اللامعنى».
أما مصطلح التفاهة فى علم الاجتماع فهو «تمييع الحدود بين الثقافة الرفيعة من ناحية والثقافة الشعبوية المنحطة من ناحية أخرى؛ أى تمييع الحدود بين اللاهوت والفقه والفن والأدب والفلسفة فى أصولها وسموها من ناحية وبين التجربة الشعبوية اليومية السطحية المبتذلة لذات المصطلحات الرفيعة من الناحية الأخرى».
فى هذه المساحة من التمييع نلتقى وبكثافة فى شهر رمضان بنجوم مبهرة تقدم ذاتها كقدوة للأجيال الحالية والقادمة، وهؤلاء النجوم يستخدمون مصطلحات علمية صحيحة ومتقنة فى السياسة والدين والأدب والفلسفة والفن... إلخ، ويطوعونها للغة الشارع المشحونة بإيحاءات جنسية وتمجيد للعنف والعلاقات غير السوية فتعبث بأخلاق المجتمع وذلك باختيار موضوع ما تكون الجماهير منشغلة به مثل: حقوق الانسان أو إصلاح التعليم أو دور المرأة فى المجتمع أو الفتنة الطائفية، وتقوم بالتركيز عليه بطريقة سطحية وتطلق شعارات تثير العاطفة ونكات فجة بدلا من الحوار العاقل والعمق الفكرى، وذلك كبديل عن الغوص فى أعماقه. وتجدهم يلوحون بنصوص من الكتب المقدسة، وبأقوال الفلاسفة العظام، أو بمصطلحات علمية فتنتبه وتركز معهم وإذ بك تصدم بضحالة شديدة فى تفسيرها مع سخرية من الجادين فى معالجتها، وهذا يهبط بمستوى الحديث للجماهير لدرجة الخلط بين لغة الشارع التافهة بما تحمله من إيحاءات غير محترمة وتغليف المصطلح القيم بها فيتحول المصطلح العلمى أو اللاهوتى والفقهى إلى نكتة سخيفة أو تافهة بلا معنى حقيقى.
***
إنهم يقومون بعمل حالة من التجهيل المنظم وإذ بالجمهور ينبهر بهم لسببين الأول أنهم يستهدفون جماهير دون قدرات علمية حقيقية أو قدرة منهجية على تقييم ما يسمعونه أو حتى عقول عملية تميز الغث من السمين، وهذه النوعية من البشر تمثل الغالبية العظمى من شعوب العالم الثالث. فتلاحظهم بكثرة فى غالبية المتعبدين فى الكنائس والمساجد وغالبية الدارسين فى الجامعات والمنخرطين فى العمل العام من سياسيين أو إعلاميين ورجال أعمال.....إلخ.
هذه الظاهرة لا يمكن تشخيصها إلا بوصفها «تفاهة» والتفاهة ليست «إهانة» أو «شتيمة» بل هى وصف محايد مؤدب للأشخاص الذين يتحدثون وكأنهم يعرفون وهم ليسوا كذلك بل يتهمون العارفين والفاهمين والمقتدرين على البحث العلمى الحقيقى بالكفر أو الخروج عن العقيدة والنصوص المقدسة. والذين يستخدمون مثل هذه المصطلحات تجاه الذين يختلفون معهم إما يستخدمونها لعدم قدرتهم على مقابلة الحجة العلمية بالحجة العلمية، والدليل المنطقى الدينى (لاهوت ــ فقه ــ فلسفة) بدليل فقهى أو لاهوتى أو فلسفى.
فى القرن الأول عندما بدأ انتشار المسيحية بخلفيتها اليهودية إلى باقى شعوب العالم المعروف حينئذ ظهرت مشكلة أكل الحيوانات التى تذبح للأوثان وتستخدم فى طقوسهم وعبادتهم ثم تطرح للبيع للعامة، وقد وقع اختلاف بين المسيحيين حول أكل لحوم تلك الحيوانات التى تذبح للآلهة بين محلل ومحرم، وفى معالجة لهذه الظاهرة كتب أحد الرسل الأوائل موجها حديثه للجمهور المتسائل عن حكم شراء وأكل مثل هذه اللحوم قائلا «واحد يؤمن أن يأكل كل شىء (وهو هنا يتحدث بالطبع عن الشخص الفاهم منفتح الفكر فيأكل مما ذبح للوثن لأنه مقتنع أن تناوله هذه النوعية من اللحوم لا يؤثر على إيمانه) وأما الضعيف فيأكل بقولا (وهنا يتحدث عن المدقق من وجهة نظره المتمسك بالشريعة دون عمق حقيقى فهو ما زال يؤمن أن الأكل مما ذبح للأوثان يفقده إيمانه أو على الأقل يتعارض معه). ثم ينصح الرسول الطرفين بالقول: «لا يزدر من يأكل (القوى الفاهم) بمن لا يأكل، ولا يدن من لا يأكل (الضعيف فى الفهم) من يأكل»، والمقارنة هنا بين كلمة الازدراء التى يستخدمها الفاهم المثقف من نحو غير الفاهم فيترفع عن الحديث معه، بينما الضعيف يستخدم «الدينونة» أى يحكم على الفاهم أنه كافر ومصيره الجحيم وبئس المصير.
إن هؤلاء الذين يحكمون بتكفير الناس فى أى خلاف فقهى أو لاهوتى يتشبهون بالفاهمين فى ملابسهم وحركاتهم ومصطلحاتهم فيبدون عباقرة، وهذا المظهر يعبر تماما عن معنى كلمة «تافه» فى القاموس اللغوى فتافه تأتى من «تفه» وتفه الطعام أى صار بلا طعم أو ذوق فشكل الطعام ورائحته لا يختلف من الظاهر لكن عند تذوقه تكتشف أنه بلا طعم وهذه الظاهرة «التفاهة» لا ترتبط بمعنى ولا تحقق غرضا.
***
لذلك نجد أن الجيل الذى ينبهر بهم ويستمع إليهم جيل مسطح يبحث عن معنى لحياته بلا جدوى. إنهم قطعان لنجوم لا تختلف عنهم كثيرا بل هم امتداد لنجومهم بل وأن نجومهم ما هم إلا تعبير صادق عنهم وعن ثقافتهم. إن العلماء الحقيقيين هم الذين يصقلون أنفسهم أولا ثم ينزلون للجماهير ليرتفعوا بهم أما أولئك الذين يتعجلون الشهرة والصعود فينزلون للجماهير سطحية الفكر ويغازلون مشاعرهم ويستمتعون بمجالستهم ويتحدثون لغتهم، فيصف ويهتف الآخرون لهم لأنهم يشبعون غرائزهم بدلا من الصعود بهم وهذا بالطبع أسهل للطرفين المعلم والمتعلم. وهذا هو التحدى والصعوبة لكل من يتحمل مسئولية تجاه الجماهير كيف يستطيع تأسيس نوع من الوعى واضعا هذه الثرثرة الجماهيرية فى حدودها الطبيعية، لأن غزوها للمستوى الأعلى لاهوتيا وفقهيا وفكريا سوف يحول كل شىءإلى تفاهة فارغة متداولة.
نحن نستطيع أن نكتشف بوضوح أن لغتنا السياسية المتداولة اليوم مزيَفة؛ لأنها لا تعترف بالاختلاف والتعدد الذى يطبع مجتمعاتنا فهى بنت تلك السياسات التى طالما عمدت إلى كبت ذلك التعدد لعقود، مرة باسم الدين ومرة باسم القومية أو الوحدة الوطنية وإلى غير ذلك. والقضية اليوم هى كيف نحرر الدين من الاستغلال السياسى وعلينا أن ندرك أن هذا لا يتم إلا بجعل الدين علاقة فردية وليس جماعية مع الله؛ فالدين ليس مشروعا جمعيا كما تصوره لنا المؤسسات الدينية لتتحكم فينا وتؤسس لسلطة دينية تتحكم فى كل مناحى حياة تابعيها. يجب فصل الدين عن سلطة المجتمع والدولة فيعود حرا متاحا لكل فرد عاقل قبوله أو رفضه دون ضغوط، وهذا التوجه هو الأساس لكل دين منذ ظهوره وهنا يظهر الفارق بين المثقف والفقيه السطحى الباحث عن الشهرة والمثقف والفقيه النقدى الذى يتبنى الرقى الفكرى فى كل المجالات السياسية والدينية والعلمية والأدبية والفنية. وهذا لا يمكن أن يأتى إلا عن طريق «جذر» هذا الجذر يغذى ويسقى بعمق واطلاع وفهم فيصير شجرة عملاقة تعطى ثمرا وورقا وظلا. إما هذا أو البديل أى اللامعنى والانحطاط والجنون. علينا أن نختار مستقبلنا بين طريقين لا ثالث لهما التفاهة أو المعنى.

 

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات