أوان التنسيق بين السياستين المالية والنقدية! - محمد يوسف - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:13 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أوان التنسيق بين السياستين المالية والنقدية!

نشر فى : الجمعة 5 يوليه 2019 - 9:35 م | آخر تحديث : الجمعة 5 يوليه 2019 - 9:35 م

ظاهر الأداء الاقتصادى المصرى يوضح أنه يسير بخطى متتابعة ناحية الاستقرار والنمو؛ وباطن هذا الأداء يكشف عن حاجته الماسة للتنسيق بين السياسات الاقتصادية المنوط بها تحقيق استقرار فى مؤشرات الاقتصاد المالى، ونمو مستدام فى مؤشرات الاقتصاد الحقيقى.
***
هناك صراع محموم وشبه دائم بين صانعى السياسات الاقتصادية فى أغلب بلدان العالم؛ ولا تكاد تجد اقتصادا معافى من هذا الصراع. ففى حين يسعى راسم السياسة المالية لتعزيز أدواته للسيطرة على عجز الموازنة العامة مثلا، سيضع نفسه فى صدام شديد مع صانع السياسة النقدية، وتحديدا عندما يلجأ الأخير لاستخدام بعض من أدواته النقدية التى تفاقم من هذا العجز. انظر هنا مثلا لقضية تزايد الأقساط والفوائد المستحقة على الدين العام، والتى تلتهم حصة متزايدة من الإيرادات العامة للدولة، وخصوصا فى الدول صاحبة المديونية الثقيلة. فعندما تكافح وزارة المالية (بصفتها صانعة السياسة المالية) فى محاصرة ظاهرة نمو هذه النفقات، وتتخذ خطوات تنفيذية لضغط نفقات خدمة المديونية الحكومية، فإن قرارا واحدا من البنك المركزى (بصفته صانع السياسة النقدية) برفع سعر الفائدة فى سوق رأس المال، كفيل بأن يذهب بخطوات وزارة المالية أدراج الرياح. ذلك أن رفع سعر الفائدة فى هذه السوق سيدفع بأعباء الدين العام للزيادة، كنتيجة مباشرة لزيادة مدفوعات الفائدة على الأوراق المالية الحكومية المتداولة فى سوق تتسم بالتنافس والتزاحم الشديد على السيولة المتاحة فيها. وعندما تحاول وزارة المالية التصدى لإجراءات البنك المركزى التى ستحول دون تحقيق أهدافها المالية، ستتجشم وحدها عناء الدفاع عن سياسات اقتصادية قد تكون مرفوضة فى سياق داخلى مُؤدلج، أو قد تكون مفروضة ضمن التزامات الدولة فى سياق خارجى مُعولم (كحال البرامج الاقتصادية التى تطالب بتطبيقها المؤسسات الاقتصادية الدولية).
وكما بدا لنا فى المثال السابق، ومثلما تستطيع السياسة النقدية أن توقع الضرر بأهداف السياسة المالية، فإن السياسة المالية هى الأخرى تُتهم فى مواضع كثيرة بإعاقة السياسة النقدية عن أداء مهامها. فهب أن دولة ما تعانى من ويلات الغلاء؛ وأنها تجاهد فى سبيل استرداد استقرارها النقدى، وأن صانع سياستها النقدية يستهدف تقليل حجم المعروض من النقود فى الأسواق. فماذا عسى محافظ بنكها المركزى أن يصنع إزاء قيام وزير ماليتها بالتوسع فى إصدار أذون على الخزانة لتمويل عجز الموازنة العامة؟! إذ يمكننا القول ــ بدون الخوض فى تفاصيل فنية ــ أن أذون الخزانة تعامل من حائزيها معاملة النقود، وأن زيادة أرصدتها يعادل تماما التوسع فى طباعة النقود. وفى حالة كهذه، يكون لجوء وزارة المالية لطرح هذه الأذون هو الإجراء الأكثر إزعاجا للبنك المركزى، ويعتبر الخطوة الأكثر ضررا بخطواته لمحاصرة غلاء الأسعار فى الأسواق. وبالتالى، وكما تضررت السياسة المالية من السياسة النقدية عند رفع سعر الفائدة، ها هى السياسة النقدية تتضرر من السياسة المالية عند التوسع فى إصدار أذون الخزانة!
وعطفا على المثالين السابقين، وبينما نسلم بأن الصراع بين السياسات الاقتصادية أصبح سمة رئيسية من سمات الاقتصادات الحديثة، فإننا نقر فى ذات الوقت بأن هذا الصراع يظل فى النطاق المقبول اقتصاديا طالما أنه ينطلق من أرضية تنموية واحدة، وطالما أنه يخلق مُناخ صحى تتطور فيه أدوات كل سياسة على حدة، ثم تتكامل هذه الأدوات فيما بينها لتحفز من قدرات النمو الاقتصادى الاجمالى. بيد أنه فى حالة غياب الأرضية التنموية التى ينطلق منها هذا الصراع بين السياسات الاقتصادية، وفى حالات عديدة فى الدول النامية المدينة، نكون أمام صراع من النوعية المستعصية على التنسيق، ونكون أمام صراع يضيف للمشكلات الاقتصادية القائمة مشكلات جديدة عصية على الحل، وبما يئد من قدرات التشغيل والنمو التى يمتلكها الاقتصاد. ففى ظروف اقتصادية يغيب عنها التنسيق الحقيقى بين السياسات الاقتصادية، وتقتصر على تشكيل مجالس للتنسيق الشكلى بينها، من الممكن أن نسمع عن تحسن فى أحد المؤشرات الاقتصادية، ولا نرى أثرا لهذا التحسن فى أرض الواقع؛ أو يمكن أن نرى الشيء ونقيضه فى نفس الاقتصاد فى نفس الوقت.
***
إن فض الاشتباك القائم بين السياستين المالية والنقدية فى اقتصاد نامٍ كالاقتصاد المصرى، وتطوير إمكانات التنسيق والتكامل بين الجوانب المالية والجوانب النقدية، هو من الأهمية لدرجة أننا نجعله دليلنا فى تقييم كفاءة السياسة الاقتصادية الكلية المطبقة حاليا. لكننا، مع ذلك، لا نحصر هذا التنسيق فقط فيما تقتضيه برامج التكيف المالى المعممة من المؤسسات الدولية من تنسيق حول استهداف الغلاء، أو حول السيطرة على عجز الموازنة العامة. فلا هى حاصرت الغلاء عندما استهدفته، ولا هى سيطرت على عجز الموازنة عندما عمدت إلى ذلك. أما التنسيق الذى ندعو إليه هنا يراعى أمورا أكثر شمولية من مجرد تكييف الاقتصاد ماليا، أو إخراج بعض مؤشراته فى شكل يركز على الأجل القصير دون الأجل التنموى الطويل. فهو تنسيق ينطلق من مرجعية تنموية منضبطة، ويضم مدى واسع من الأهداف، ويحافظ على ترتيب منطقى للأولويات؛ وقبل كل ذلك، يراعى التوقيتات السليمة للتنسيق فيما بين هاتين السياستين.
فأما عن المرجعية التنموية المنضبطة، فنقصد بها أن يكون الأساس العلمى الذى تُبنى عليه عملية التنسيق بين جميع السياسات الاقتصادية (ومن بينها السياستان المالية والنقدية) هو أفكار وأطروحات «التنمية المستقلة». فعند التنسيق لمحاصرة الغلاء مثلا، لا يصح أن نرتب علمية التنسيق بالاعتماد على أن هذا الغلاء يحدث بسبب الإفراط فى الطلب الخاص، أو لتوسع الحكومة فى الإنفاق على الدعم والضمان الاجتماعى للفقراء. لأن الفكر التنموى المنضبط يرجع هذا الغلاء لقصور العرض بسبب ضعف قدرات الاستثمار والتشغيل والانتاج فى الاقتصاد. وبنفس المنهجية التنموية، لا يمكن أن نبذل جهودا تنسيقية بين السياسات الاقتصادية فى التجارة الخارجية ونقصرها على تشجيع التصدير ــ حتى لو كانت مجرد صادرات مواد خام ــ دون تقييد الاستيراد الترفى والكمالى.
وأما عن مدى الأهداف التى يتوخاها التنسيق بين السياستين المالية والنقدية، فسنذهب بها لأبعد مدى اقتصادى ممكن. حيث يتعين على هاتين السياستين أن تتناسق فى إدارة سعر الصرف للجنيه، وأن تديره بالشكل الذى يزيد من القدرات التصديرية للاقتصاد، والذى يساعد استراتيجية الإحلال محل الواردات، وبالشكل الذى يقلل من ضغوط الغلاء فى الأسواق. كما يقع على عمليات التنسيق أن تستهدف تحفيز المكون المحلى الصناعة الوطنية، وأن تتشارك فى دعم خطط وبرامج الاستثمار والإحلال والتجديد فى القطاع العام الصناعى، وأن تتكامل فى دعم صغار المستثمرين فى الأنشطة الاقتصادية عالية القيمة المضافة، وأن تشجع على امتلاك وتطوير تكنولوجيا وطنية خالصة. كما أن الاهتمام بدعم الطبقات الاجتماعية الفقيرة ليس بعيدا عن نطاق التنسيق بين هاتين السياستين، حتى لو تطلب ذلك تدشين برامج جديدة لدعم قدراتهم على الانتاج والاستهلاك.
وأما عن الترتيب المنطقى للأولويات، والذى بغيابه يحدث الشقاق بين هاتين السياستين، فرغم أننا نؤمن بأن السياسة المالية مقدمة على السياسة النقدية فى الفاعلية الإصلاحية فى الاقتصاد المصرى فى ظروفه الراهنة؛ فإن ذلك لا يمنع من وجود بعض الأولويات لأهداف السياسة النقدية (كهدف الدفاع عن قيمة الجنيه فى سوق الصرف الأجنبي). وعموما، فنقصد بعملية ترتيب الأولويات تلك، أنه بفرض حدوث تعارض طارئ بين هدفين أحدهما للسياسة المالية والآخر للسياسة النقدية، وأنه لا بديل عن التضحية بأحدهما لتحقيق الآخر، فإننا فى هذا الحالة سننحاز لهدف السياسة المالية. ورغم هذا الانحياز المسبق، فإنه من حسن الحظ أن الانطلاق من أرضية التنمية المستقلة، لا يجعلنا نرى فى الأفق ثمة فرص جادة لحدوث تعارض هيكلى ذى بال بين الأهداف المالية والنقدية.
***
ولكى تتمكن السياستان المالية والنقدية من العبور لشاطئ التنسيق والتكامل، فإن توقيتات هذا التنسيق يجب أن تكون ضمن خطة منضبطة تراعى تقلبات الأوضاع الاقتصادية، وتجتهد فى تحسين قدرات التنبؤ الاقتصادى. ونزولا لأرض الواقع، وعلى سبيل المثال، فإن التحسن الحالى فى قيمة الجنيه المصرى فى سوق الصرف الأجنبى يمثل فى رأينا الوقت المناسب لتعديل سياسة الاحتياطى القانونى كإحدى أدوات السياسة النقدية، من خلال إعادة النظر فيما وصلت إليه قيمة هذه الاحتياطات. فالعبرة دائما ليست بحجم الاحتياطى من العملات الأجنبية، إنما العبرة بتكاليف وعوائد الاحتفاظ بهذه الاحتياطات، وبمدى توافر الفرص البديلة لاستغلالها الاستغلال الأمثل. وهو الوقت المناسب أيضا للتوقف عن تقديم دعم سعرى (مباشر أو غير مباشر) لمستوردى السلع غير الضرورية، مع ادخال تعديلات جوهرية على سياسة سعر الدولار الجمركى (يعتبر التنقيح الدورى لجداول التعريفة الجمركية للسلع غير الضرورية، وبيع الدولار لمستوردى هذه السلع بعلاوة نسبية تحدد وفق درجة رفاهية السلع المستوردة من ضمن التعديلات التى نقترحها). وعلى كل حال، وإذا اعتبرنا أن عملية التنسيق بمثابة الدواء المطلوب لعلاج خلل السياسات الاقتصادية، فإن تجرع هذا الدواء فى غير أوانه لن يفيد فى علاج هذا الخلل فحسب، بل سيكون سقما إضافيا يضاف إلى سلسلة طويلة من الأسقام التى يعانى منها الاقتصاد.
***
إنك إن ناقشت محافظا للبنك المركزى فى إحدى البلدان النامية حول أدواته النقدية التى تضر بالسياسة المالية، سيرد عليك دون تلعثم بأنه لا يمكن رؤية الأوضاع المعقدة التى فى البنك المركزى عبر النظر من وزارة المالية. أما إذا جادلت وزيرا المالية فى أدواته المالية التى تضر بالسياسة النقدية، سيجيبك بأن هدف علاج عجز الموازنة العامة يعلو ولا يُعلى عليه. وبين تشبث كل منهما برأيه، وتيقن كليهما من سلامة ما يتخذ من قرارات، فمبلغ علمنا أنه لن تستقيم الأحوال المالية والحقيقية فى أى اقتصاد بغير التنسيق بين سياساتها الكلية، وفى القلب منها السياستان المالية والنقدية؛ وهو ما نرى أنه قد آن أوانه فى الاقتصاد المصرى حاليا! أوان التنسيق بين السياستين المالية والنقدية!

محمد يوسف باحث رئيسي في مركز تريندز للبحوث والاستشارات بدولة الإمارات
التعليقات