سيمور هيرش: بدايات أسطورة صحفية - داليا سعودي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 11:23 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سيمور هيرش: بدايات أسطورة صحفية

نشر فى : الإثنين 5 نوفمبر 2018 - 11:25 م | آخر تحديث : الثلاثاء 6 نوفمبر 2018 - 10:15 ص

لا أحبُ صيغة التفضيل «أفْعَل». وأتحرى الدقة والموضوعية قبل استخدام أوصاف من قبيل «عملاق» و«أسطورة». لكن القامة التى أكتبُ عنها اليوم من الصعب أن تجدَ لها صِنوا بين كُتاب الصحافة العالمية فى النصف قرن الماضى. فنتاجه فى ميدان الصحافة الاستقصائية بلغ مبلغا لم يطاوله نتاجٌ آخر من الجسارة، ومن الغزارة، ومن النضج. حصيلته من الجوائز والتكريم والحفاوة لا تضاهيها إلا حصيلته من الأعداء بين رءوس الحكومات القوية، وأذرع المؤسسات العتيدة، وحفنة من المجرمين الكبار. فهو رجلٌ كرس حياته لملاحقة الحقيقة بضراوةٍ عاتية وتصميم غير مسبوق، رافضا فى سعيه الأبدى إلى الاستقلالية أن تحتويه روايةُ رسمية أو أن يدجنه نظام.
***
فى مذكرات عملاق الصحافة الأمريكية «سيمور هيرش» الصادرة أخيرا عن دار KNOPF، نقرأ تفاصيل جديدة من تحقيقاته الصحفية التى عرت الحرب فى ڤيتنام وفظائع مذبحة «ماى لاى»، والتى عمقت فهم أبعاد فضيحة ووترجيت، والتى رصدت مخازى وكالة الاستخبارات الأمريكية فى تشيلى وكوبا وبنما وغيرها. كما نقرأ عن أكاذيب هنرى كسنجر وألاعيب ديك تشينى، وعن الطريق الوعر الذى سلكه الصحفى ليصل إلى حقائق التعذيب فى سجن «أبوغريب»، وإلى تفاصيل «الحرب على الإرهاب» ومقتل أسامة بن لادن. وجميعها فصول تستحق وقفات متأنية سأعود إليها فى مقالات أخرى. فهى إلى جانب ثرائها بالتفاصيل المثيرة تُبين أيا من الخطوط الحمراء تخطى، وأيَها احترم، وأيا من الأدوات استخدم، فضلا عن تبيانها أهمية الحفاظ على سرية المصدر وحمايته مهما تكلف الأمر، ضمانا لصحافةٍ حرة.
أما اليوم فأنا أقترب من سنوات التكوين التى صهرت مهارات هذا الصحفى الفذ وصنعت أخلاقياته، فى زمن تَوَفَر فيه للصحافة الورقية التمويل الهائل الذى كانت تُدرُه الإعلاناتُ قبل ظهور الإنترنت، وتَوَفرَ فيه الوقتُ الكافى لصناعة قصصٍ صحفية ميدانية محبوكة وموثَقة. زمنٌ لم يكن فيه المراسلون الصحفيون محض ببغاوات تكرر تصريحات المصادر الحكومية وتقارير الأمم المتحدة لملء ساعات البث المتواصل على المواقع الإلكترونية، ولم يكن الرئيسُ يطلق فيه تغريداته العدوانية واصفا الصحفيين بأنهم «أعداء الشعب».
***
أعطنى عقلا عظيم الفضول، ونفسا تواقة للحقيقة والعدالة، ومزاجا مستقلا يرفض القولبة، وعينا تصطاد الغائبَ وراء الأحداث، وأذنا تعى وتترجم إذا ما سمعت؛ أَوْرِثه حبا فطريا للقراءة النَهمة، القراءة الموسوعية، القراءة المقترنة بخيال الأدب ودروس التاريخ، وعلمه فى الجامعة القراءة النقدية؛ ثم انثر على الطريق بضعة أشخاص ممن يرسلهم القدرٌ بحكمة فى لحظات العُسر؛ وهيئ له، بعد طول تخبطٍ فى مدرسة الحياة، ظروفَ التقلب فى أروقة الصحافة من أدناها إلى أعلاها، دعه يعمل بيديه فى كل الأقسام، وتتلطخ ملابسه بالحبر الأزرق المستخدم فى المطبعة، وتهترئ يداه وهو ينظف مكتب رئيس المراسلين كل ليلة، ثم دعه يعمل حرا، وأطلق عنانه فى تغطية أخبار الجريمة فى مدينة مثل شيكاغو، من دون أن تحبسه طوال حياته فى وظيفةٍ أو تُحمِله أيَ مهمة بيروقراطية فى بلاط صاحبة الجلالة. أعطنى كل ما تَقَدَم أعطيكَ مراسلا صحفيا من طراز سيمور هيرش!
(ملحوظة مهمة: لا أضمن لك ظروفا كتلك التى عمل تحتها سيمور هيرش، لكننى أضمن لك فقط مراسلا ميدانيا من طرازه. لذا لزم التنويه!).
***
ولما كنتُ أؤمن عن تجربةٍ أن حكمة المقادير أعقل وأعقد من أن تكون محض لعبة مصادفات، فلقد قرأتُ الدور القدرى فى سنوات التكوين تلك على أنه التجسيد الأمثل لفكرة أن كلا ميسرٌ لما خُلق له.
يموت عائل الأسرة المتواضعة بسرطان الرئة الذى طال المخ، ويذهب الأخ التوءم للدراسة فى جامعة إلينوى حتى ينال الدكتوراه، ويبقى فتانا مع أمه ليرعاها ويتولى تشغيل مغسلة رثة خلفها الأب، مكتفا بالذهاب إلى معهد رث على مقربة من البيت الرث. وفى نهاية إحدى المحاضرات، يستوقفه المحاضر ليسأله: «ماذا تفعل هنا؟ أنت مكانك ليس هنا». فقد أعجب المعلم بدراسة ممتازة قدمها «سيمور» قارن فيها بين رواية للكاتب البريطانى «سمرست موم» وأخرى للروائى الأمريكى «فرانسيس سكوت فيتزجيرالد». وعليه فقد أخذه المعلم من يده وأدخله الاختبار المؤهل لجامعة شيكاغو لينجح ويلتحق بالجامعة ويحصل على شهادة جامعية تمهيدية فى الأدب الإنجليزى. وبعد ثلاثة عقود على تلك الواقعة، عندما أصدر سيمور هيرش كتابه الشهير عن هنرى كيسنجر، «ثمن السلطة»، واستحق عنه ضجة عارمة، وصله بعد كل تلك السنوات، خطاب من أستاذه ذاك الذى غير مجرى حياته، يواصل فيه إسداء التشجيع لطالبه النجيب الذى صار نجما لامعا، ويدعوه لإلقاء المحاضرات بالجامعة.
الجملة ذاتها: «ماذا تفعل هنا. مكانك ليس هنا.» قالها مستنكرا فى سياق آخر معلمٌ آخر من معلمى الفتى، حين وجده يعمل نادلا فى محل لبيع الكحوليات، بعد أن طردته كلية الحقوق لتكرر غيابه وزهده فى دراسة القانون. وكان صوت الأستاذ يتوافق مع صوت ضمير الفتى الحائر فى تلمس طريقه.
(ملحوظة مهمة: مثلُ هؤلاء المعلمين، الذين يعرفون كيف يشجعون الموهبة، وكيف يعيدون الجواد إذا شرد أو طالت كبوته، عملةٌ لعَمرى نادرة).
***
لكن المقادير بلغت مداها الأقصى فى الحماية والتعهد، فى موقف آخر فى سنوات التكوين التى صنعت «سيمور هيرش». فبعد أن قدم طلبا للعمل فى مكتب المدينة الإخبارى City News Bureau، اضطر لتغيير محل إقامته، ونسى أن يخطر المكتب بعنوانه الجديد. وبعد مضى شهور، نسى خلالها طلب العمل واستكان فى عيشته الرثة وعمله الرث فى متجر الخمور الرث، دعاه أصدقاؤه الذين استأجروا شقته القديمة للعب الورق. وفى الصباح، بعد أن اضطر للمبيت بمسكنه القديم، رن جرس الهاتف، ليبلغه المتصل أن طلبه قد قُبل للعمل بكتب المدينة الصحفى، ولتبدأ رحلته الصحفية التى لم تتوقف فى مهنة البحث عن المتاعب.
هناك، فى مكتب مدينة شيكاغو الإخبارى، سيتعلم ثلاثة دروس للحياة وللمهنة: أن المعلومة لا يصح أن تُنشر إن لم يتم توثيقها؛ وأن الصحافة فى بلاده لن تتخلص من عنصريتها بسهولة، وأن الصحفى إنسانٌ قبل كل شىء: يضعف ويخاف وتساوره الرقابة الذاتية فى مواطن الخطر. لكن صاحبنا بدا وكأنه لا يأبه بالخطر!
(ملحوظة أخيرة: لا تعبأوا بالمقارنات مع حال الصحافة العربية. فـ«سيمور هيرش» هو آخر الناجين من رعيل الصحافة الاستقصائية الأمريكية فى عصرها الذهبى).

 

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات