انكسار الروح - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الثلاثاء 7 مايو 2024 10:19 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

انكسار الروح

نشر فى : الخميس 7 فبراير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 7 فبراير 2013 - 8:00 ص

عندما سمعت لأول مرة بواقعة «المواطن المسحول» لم يخطر فى خيالى أن هذا هو ما حدث. رأيت عبر العقود جنودا يتصرفون بوحشية فى مواجهة مواطنين فى لحظات غضب وهياج فيضربون ويحطمون، لكننى عندما رأيت شريط الفيديو الخاص بتلك الواقعة أدركت أن نفرا لا أدرى عدده من قوات الأمن ما زال يتصرف باعتباره فاقدا لإنسانيته بحيث يسمح لغضبه وهياجه بأن يفعل ما فعل. أخذت عيناى تحملقان فى الضحية المسكينة وجلادوه يسحلونه عاريا. يتركونه ثم يعودون بكل خسة لضربه وسحله من جديد ونظرات الرجل تنطق بالمهانة والانكسار. قدر لى إن أرى مذبحا للحيوانات وما تصورت أن مواطنا له كافة حقوق الكرامة الإنسانية يمكن أن يعامل معاملة أدنى من معاملة الحيوان المذبوح. انتابنى شعور بانكسار عميق يشبه انكسار الروح الذى غمرنى بعد أن عرفت بنبأ هزيمة 1967. «البلد حزينة يا صاحبى». هكذا تمتم مواطن عادى وهو يسير بجوار سور حديقة الحيوان صباح يوم إعلان الهزيمة. لخص الرجل بكلماته البسيطة مأساة الشعب المصرى كله، وما أحسب «البلد» إلا حزينة وهى ترى «الكرامة الإنسانية» التى نادت بها ثورة يناير وقد مرغت فى وحل انكشارية القرن الحادى والعشرين.

 

•••

 

تداعت العقود فى ذاكرتى فاستعدت مظاهرات فبراير 1968 التى لم يحدث للمتظاهرين فيها ما يحدث الآن، ثم مر بى شريط طويل من الذكريات توقفت فيه عند سبعينيات القرن الماضى التى مثلت نقطة الذروة آنذاك فى حركة الشباب الوطنى، وقفز إلى ذهنى ذلك الجندى أمام كلية الهندسة لجامعة القاهرة الذى انهال ضربا بوحشية على أحد المتظاهرين، ثم أخذ يحطم فى غل واضح دراجة نارية تركها صاحبها فى المكان. تداعت إلى ذهنى أيضا مواجهة عنيفة لا أذكر تاريخها تحديدا فى الطريق الفاصل بين المدينة الجامعية وبين كلية الاقتصاد، ولا يغادر ذاكرتى ذلك اللواء الذى كان يقود المواجهة مع الشباب الثائر، والذى كان يخاطب الثائرين بألفاظ فى منتهى البذاءة تضاف إلى سيل منهمر من القنابل المسيلة للدموع، وأذكر أننى يومها تساءلت جادا بينى وبين نفسى: أما عن ضرب المتظاهرين بقسوة فهذا عمله (المرفوض بطبيعة الحال)، وقد تكون هذه القسوة ناجمة عن مشاعر الهياج والغضب التى تجتاح قوات الشرطة عندما تدخل فى مواجهة محتدمة، غير أنه كيف يمكن تفسير صدور تلك الألفاظ شديدة البذاءة عن مثله؟ ثم تمر السنون بل والعقود وحال قطاع معين من الشرطة على ما هو عليه إلى الدرجة التى يمكن معها اعتباره سببا مباشرا من أسباب الثورة، وما قصة الشهيد خالد سعيد ببعيدة. ويتأكد المرء من أن برامج حقوق الإنسان فى كليات الشرطة ومعاهدها ومراكزها التدريبية إما أنها شديدة الشكلية أو هى ــ وهذا ما أرجحه ــ لا تصل أصلا إلى أولئك الضباط والجنود المكلفين بمكافحة الشغب.

 

•••

 

انتهيت إلى أنه من المرجح أن تكون هناك ازدواجية فى جهاز الشرطة، فهناك الذين يضربون عرض الحائط بحقوق الإنسان فى أبسط معانيها، وهناك ذلك القطاع من ضباط الشرطة الذين تعاملت معهم فى المراكز البحثية ومراكز التدريب وأكاديمية الشرطة تدريسا وبحثا، وهذا القطاع الثانى ليس قطاعا سويا فحسب وإنما هو يضم مجموعة من خيرة رجال مصر. وما زلت أذكر ذلك الصديق العزيز حتى الآن الذى كان على رأس واحد من المراكز التدريبية المهمة فى جهاز الشرطة، والذى كان شغوفا بالفلسفة إلى أبعد الحدود حتى حصل مؤخرا على جائزة الدولة التشجيعية فى الترجمة، وكل كتبه المترجمة فى مجال فلسفة العلوم، ولديه منذ مدة صالون ثقافى لا يقل بحال عن أرفع الصالونات الثقافية فى المجتمع المصرى. تذكرت كذلك كيف انتهت حياته المهنية فى وقت كان باب المستقبل مفتوحا أمامه على مصراعيه لتولى أرفع المناصب فى جهاز الشرطة، وكانت قصة هذه النهاية المبكرة أن وزير الداخلية فى حينه زكى بدر كان محافظا لأسيوط قبل تولى الوزارة، ويبدو أنه وجه لوما شديدا لمسئول أمن الدولة الذى كان يتابع عمله كمحافظ، فانبرى صاحبنا بما عرف عنه من أخلاق وشهامة ليقول فى اجتماع مع الوزير الجديد أن الرجل لم يخطئ وإنما كان يقوم بواجبه المهنى، فعلق الوزير بقوله: «يعنى أنا كداب بأه»، وبعدها فشلت كل محاولات السادة المحترمين أعضاء المجلس الأعلى للشرطة فى إثناء الوزير عن إنهاء خدمة صاحبنا.

 

•••

 

تذكرت أيضا ذلك المسئول رفيع الخلق الذى أهدى إليّ رائعة ماجدة الرومى «كلمات» بعد أن استمعت إليها لأول مرة فى مكتبه، وثالث كان مسئولا عن واحد من أهم المراكز التدريبية بالوزارة فأبدع فى عمله أيما إبداع، وكان له بشكله الرقيق ونظارته الصغيرة سمت المايسترو وليس لواء الشرطة، وشاءت إرادة ربى أن يقضى فى حادث سيارة والمستقبل الباهر أمامه، ونفس ما حدث مع صاحبنا الأول تكرر على نطاق واسع فى عهد حبيب العادلى وبالذات فى سنواته الأخيرة، إذ أحال إلى المعاش مجموعات من اللواءات والعمداء المتفوقين فى عملهم بالعلم وقوة الشخصية، ومنهم ذلك الصديق العزيز كبير المعلمين الأسبق فى كلية الدراسات العليا بأكاديمية الشرطة الذى جعل كليته تضاهى مثيلاتها الجامعية العريقة فإذا بمصيره هو المعاش فى مطلع الخمسينيات من عمره، ومنهم ذلك الباحث الجاد الذى بح صوته مطالبا بإعمال العلم فى جهاز الشرطة، وغير هؤلاء الكثير. نحن إذن إزاء ازدواجية واضحة بين من يضربون ويحطمون و«يسحلون» وبين من يراعى فى عمله أرفع المعايير المهنية والأكاديمية والإنسانية، والمطلوب هو «فتح الهويس» كى تغمر المياه النقية جهاز الشرطة كافة، وهى ليست بالمهمة اليسيرة.

 

•••

 

وبعيدا عن جهاز الشرطة ومسئولية «القسم المريض» منه عما وقع فإنه لا تقل عنه مسئولية أولئك الذين حاولوا بتخابث أن يخففوا من وقع ما حدث بالقول بأن المجتمع لم يهتز لواقعة الاغتصاب الجماعى فى «ميدان التحرير» كما اهتز لتفاصيل مشهد «الرجل المسحول»، وكأن المسألة يجوز فيها منطق «إما أو»، أو ارتكبوا ما هو أفظع من الجريمة بإجبار «المسحول» على القول بأن المتظاهرين هم الذين اعتدوا عليه، ولا يدرى المرء ألم تكن تلك الضحية المسكينة تدرى أن ما وقع لها مسجل بالصورة فى شريط فيديو سيظل أبد الدهر مصدر خزى لكل من شارك فى سحل الضحية أو أجبرها على أن ينطق لسانها بتلك الشهادة المقهورة، أو كان كل ما يعنيهم هو تبرئه ساحة رئيس الجمهورية من المسئولية السياسية، إذ أنه بموجب الدستور الجديد وفقا لهم فإن الرئيس يمارس سلطاته عن طريق حكومته ورئيسها (ورد هذا التفسير الفذ على لسان ممثل لجماعة الإخوان المسلمين فى برنامج الإعلامى الشهير عمرو أديب «القاهرة اليوم» على قناة «أوربت» لينبهنا إلى مزيد من العوار فى دستورنا العتيد). وعلى هذا النحو الشاذ فى التفسير يفترض أن يصبح رئيس الجمهورية بدون سلطات فعلية كما هو الحال فى النظام البرلمانى، مثله فى هذا كملكة بريطانيا التى لا تملك من أمر نفسها أو غيرها شيئا.

 

•••

 

من نافلة القول إن القصاص العادل الرادع يجب أن يكون من نصيب كل من شارك فى هذه الفعلة الشنعاء حتى لا يجرؤ على تكرارها ذلك «القسم المريض» من جهاز الشرطة، غير أنه فى واقعة على هذا النحو من البشاعة لابد من الحديث عن مسئولية سياسية محددة ليعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون ولذلك أضم صوتى إلى أصوات المطالبين باستقالة وزير الداخلية الذى يتحمل كامل المسئولية القانونية والسياسية عما وقع، واستقالته ثمن بخس لكرامة المواطن المصرى المهدرة.  

 

 

 

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة ومدير معهد البحوث والدراسات العربية

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية