لماذا مدائن العقاد؟! (7) - رجائي عطية - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 6:43 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لماذا مدائن العقاد؟! (7)

نشر فى : الأربعاء 8 يناير 2020 - 8:40 م | آخر تحديث : الأربعاء 8 يناير 2020 - 8:40 م

يرى الأستاذ العقاد، أنه برغم كل ما قيل فى جفاف معيشة «عمانويل كانت»، أو جفاف كتبه، فإن هذه الكتب كانت تندى على بعض القلوب المقروحة، ويجد فيها بعض القراء السلوان والعزاء، حتى إن نبيلة نمساوية كتبت إليه تناديه: «يا كانت العظيم، إليك ألجأ كما يلجأ المؤمن إلى الآلهة»، وظلت تبثه لواعجها، وأنها لولا كتبه لقتلت نفسها، وبالفعل انتحرت بعد موته ببضعة شهور!
فبرغم «جفاف» و«صلابة» فلسفة كانت وندرة «الطلاوة» فى صياغتها، فإن فلسفته ربما كانت أنفع لبعض العشاق فى عصرها ــ من أغانى الشعراء وقصص الغرام!
ومن المفارقة أن أمر أحاديثه الشفهية ومحاضراته ــ كان على النقيض، فقد كان سامعوه يسمعون منه كلامًا طليًّا بليغًا خلابًا فى محاضراته وأحاديثه، بينما يقرءونه قاسيًا جافًّا مملاًّ فى مؤلفاته.
كان الطلاب يبكرون لسماعه وتزدحم القاعة من شدة الإقبال، أما كتبه فلا يقرؤها إلاَّ القليلون، ولا يفهمها إلاَّ النزر اليسير المختار من هؤلاء القليلين. وقد اعتذر عن صعوبة كتابته بأنه يضعها للمتخصصين من دارسى الفلسفة، ويتوخى فيها الإيجاز الذى لا تسلم عبارته من الغموض والاقتضاب. وربما أراد ذلك ليعملوا أذهانهم فى حل ألغازها وتفسير غوامضها، وهى قالة شبيهة بما ردده الأستاذ العقاد أكثر من مرة، أنه لا يكتب إلاَّ للقارئ الذى يجد ويجاهد ويتفاعل معه لفهم مراده.
وكان من حصافته فى الحديث، أن تلافى «مبارزة» دعاه إليها إنجليزى متحمس تصادف أن سمعه ينحى باللائمة على قومه، فما زال «يبارزه» بالحجة والمنطق والبرهان، فهذا سلاحه، حتى هدأت ثائرة الإنجليزى واسمه «جرين» واعتذر إليه، ونشأت بينهما منذ ذلك اليوم صداقة دائمة ومودة حميمة، يبدو أنهما تلاقيا فيها على صرامة ودقة المواعيد.
لم تكن هذه «الآلية» فى نظام حياة كانت، هى شأنه فى تاريخه مع الفلسفة، فالتناقض على أتمه فيما يراه الأستاذ العقاد، بين حياته الظاهرة وحياته الباطنة، أو بين معيشته وأثره فى عصره. فالتغييرات التى أحدثها فى آراء الناس وعقائدهم لا تكفى لشرحها المجلدات.
اشتهر اسم «كانت» فى ألمانيا، فطلبته جامعه «أرلنجن» لتدريس المنطق وما وراء
الطبيعة، وطلبته جامعة «جينا» لمثل هذا الكرسى، ولكنه بقى فى موطنه على حال من العسر المستور بالتجمل، حتى خلت وظيفة أستاذ المنطق وما وراء الطبيعة فى جامعة «كونجسبرج»، فعين فيها، ووافق ذلك عهد وزارة «زدلتز» المعروف بحريته وميله للإصلاح، فلم يبال «كانت» أن يجهر بآرائه فى ذلك العصر الذى لا يأمن فيه الفيلسوف الحر على نفسه ورزقه، وأظهر كتبه فى أصول الفلسفة والأخلاق فتلقاها قراء الفلسفة بلهفة المشتاق، وقال عنها الشاعر «شيلر» إنها «نور جديد أنير للناس»، وقال عنه فيخت إنه «منظومة شمسية كاملة»، وفى سنة 1876 أسندت إليه إدارة الجامعة، فتحسنت أحواله المالية، إلاَّ أنه بعد استقالة «زدلتز» خلفه «كريستوف فلنر»، وهو متعصب أحمق، سرعان ما شدد الرقابة على المطبوعات وحظر كل كتاب يخالف التوراة والكتب المنزلة فى رأى رجال الدين، وأصاب «كانت» من هذه السياسة عنتٌ غير قليل!
وفى سنة 1795 تخلى «كانت» عن جميع دروسه فى الجامعة، إلاَّ حصة واحدة كل يوم فى المنطق وما وراء الطبيعة، ثم تخلى عنها أيضًا بعد سنتين. فلما مات فردريك وليام الثانى واستقالت وزارته المستبدة، استطاع «كانت» أن يظهر من آرائه ما لم يكن مباحًا، إلاَّ أنه ضعف وخانته الذاكرة وأدركه خرف الشيخوخة فلزم العزلة، إلى أن وافاه الأجل فى 11 فبراير 1804.
ولم يبلغ فيلسوف حديث فى حياته ما بلغه «كانت» من علو المنزلة وبعد الصيت وحب الناس وسعيهم إلى لقائه من كل صوب، ومع ذلك فقد ترى أن ترجمة حياته ليست بالترجمة العظيمة، أما العظيم فيه، فيما يبدى الأستاذ العقاد، فهو ترجمته الباطنة وسيرته الفكرية.

***

عمانويل كانت وعمله فى الفلسفة
قد تتساءل لماذا اختار الأستاذ العقاد عنوانًا لمقاله عن «كانت» ـ عبارة «وعمله فى الفلسفة»، ولماذا لم يستقصر الطريق ويقول «فلسفة عمانويل كانت»، وسيأتيك الجواب بالسطر الأول من سطور العقاد، فهو يرى أن عظمة «كانت» لم تأتِ من أنه «صاحب مذهب» أنشأه، بل إنه لم ينشئ مذهبًا على مثال المذاهب الفلسفية المعروفة.. وهو لم يدع أنه أنشأ مثل هذا المذهب، وقرر ما يناقض المذاهب جميعًا ويظهر عوارها وشططها.. فقد تبنى النقد وجعل العقل نفسه موضوع بحثه وانتقاده، ولهذا استبعد الأستاذ العقاد تعبير «فلسفة كانت»، وفَضَّل عليه تعبير «عمله فى الفلسفة»، على أنه ليس عملا هينًا، فقد بين الرجل للعالم فى عصره ما يمكن معرفته وما لا يمكن أن يعرف بأى سبيل، فوضع تخومًا أى حدودًا للعقل البشرى، وأنزله فى مكانه ليحصر جهده فيما يُسْتطاع ويصرفه عما لا يفيد، لأنه ليس بمستطاع.
قد قسَّم «كانت» الحقائق إلى قسمين: حقائق الأشياء فى ظواهرها، وهذه كما يقرر يعرفها العقل بالحس والإدراك، وفيها تبحث العلوم وتصل إلى نتائج قد تكون صحيحة، وفى هذا خالف من أنكروا وشكوا فى كل شىء حتى فى قانون التجربة والسببية، فهو يقيم الدليل على صحة «السببية» ويجعلها من الحقائق الأولية التى أتت بها النفس من عندها.
أما القسم الثانى، فهو حقائق الأشياء فى ذاتها، وهذه لا سبيل بتاتًا لمعرفتها عن طريق العقل، لأن العقل لا يعرف إلاَّ ما يقع عليه الحس، أى لا يعرف إلاَّ الأشياء فى ظواهرها، أما الأشياء فى حقائقها وكنه وجودها، فوراء طاقة العقل. وكل ما يستطيعه أن يصل بالقياس إلى «توسيع الحكم» فى دائرة المحسوسات، ولكنه لا يستطيع أبدًا الخروج من دائرة المحسوسات أو المدركات.
كذلك قسَّم «كانت» الإنسان إلى قوتين: العقل، والإرادة أو الوجدان. فالعقل يدرك الأشياء فى ظواهرها.
والإرادة تحيط بالأشياء فى ذواتها، لأنها هى من عالم هذه الذوات.
ومن هنا نفهم فيما يوضح الأستاذ العقاد، أن علم ما وراء الطبيعة مستحيل فى رأى «كانت» عن طريق العقل، ولا سبيل إليه إلاَّ من طريق الإرادة التى تحيط بكنه الأشياء.
على أن «كانت» لم يفصل كل الفصل ــ فى نظر العقاد ــ بين عالم العقل وعالم الإرادة أو عالم الحقائق اللدنية. ذلك أننا فى اعتمادنا على المحسوسات والمدركات فى تحصيل معارف العقل ــ لا نستغنى عن «حقيقة أولية» نبنى عليها هذه المعارف. والسببية مثال على ذلك، فهى من الحقائق الأولية التى وصلت إليها النفس من عندها، لا بالبرهان ولا بالتجربة، فالتسليم بالتجربة تسليم بالسببية، ولكنه يبنى على ربط الأسباب بمسبباتها، وقس على ذلك بقية «الحقائق الأولية» فى نظر «كانت».
* * *
اعتاد الناس أن يسألوا عن رأى الفيلسوف فى قضيتين: قضية أصل الوجود والاعتقاد بالله، وقضية الأخلاق. فما هو رأى «كانت» فى هاتين القضيتين؟
يجيب الأستاذ العقاد بأن رأيه فى القضية الأولى ظاهر مما سلف من رأيه فى علم ما وراء الطبيعة، فهو يرد العلم بهذه الحقائق إلى عالم الإرادة ويخرجها من دائرة العقل. وقد كان «كانت» لا ينكر وجود الله، ولكن توهينه الأدلة التى يقيمها الفلاسفة واللاهوتيون لإثبات وجود الله، أدت من حيث لم يرد ذلك إلى مناصرة الملحدين.
أما رأيه فى قضية الأخلاق، فهى أنها خارجة أيضًا عن دائرة العقل والتعليل. فهو يقسّم الأوامر إلى نوعين أو قسمين: قسم الأمر المطلق، وقسم الأمر المعلل.
ولكن القيام بالواجب حر مطلق من قيود السببية، فلا يطيع قانون هذا العالم
المشهود، بل يعمل كأنه جزء من الإرادة التى لا تجرى عليها أحكام القوانين والأسباب، أو كأنها تلك الإرادة التى تتصل بعالم الأشياء فى ذواتها لا فى ظواهرها.
أما تفاصيل هذه الفلسفة فى أصولها، فمن ذا الذى يفهمها على صحتها؟! إن الشراح الذى تصدوا لذلك ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ قد اختلفوا فى فهمها اختلافًا بعيدًا، ومن أراد الإبحار فدونه البحر الخضم فلينزل فيه إلى أعماقه، ولكن عليه بالعوامات قبل النزول!!

Email:rattia2@hotmail.com
www.ragai2009.com

التعليقات