«أىُّ معنى للدولة بدون الشعب؟».. هاجسُ الدولة وإنكار الحقوق فى فلسطين - العالم يفكر - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 11:40 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«أىُّ معنى للدولة بدون الشعب؟».. هاجسُ الدولة وإنكار الحقوق فى فلسطين

نشر فى : الجمعة 10 يناير 2020 - 9:35 م | آخر تحديث : الجمعة 10 يناير 2020 - 9:35 م

نشرت مبادرة الإصلاح العربى مقالا للكاتب علاء الترتير انتقد فيه أولويات القيادة السياسية الفلسطينية «بناء الدولة» دون تفعيل وإشراك الشعب الفلسطينى، وجاء فيه ما يلى:
أثبتَ هوسُ القيادة السياسية الفلسطينية بفكرة الدولة بوصفها وسيلة لتحقيق تقرير المصير والحرية إضرارهُ بالكفاح فى سبيل إنهاء استعمار فلسطين، وقد ارتكبت هذه القيادة ــ تحت ضغط الأطراف الفاعلة الإقليمية منها والدولية ــ خطأ استراتيجيا من خلال إفراد الأولوية لنموذج «كيان الدولة فى ظل الاستعمار»، بدلا من اضطلاعها بإجراءات تفكيك وإنهاء استعمار فلسطين أولا ومن ثمَ الانخراط فى إجراءات تشكيل الدولة. إن فكرة كيان الدولة فى ظل وتحت الاستعمار نموذجٌ معيب بجوهره أساسا وهو بمثابة تشتيتٍ للانتباه وللجهود عن العائق الأساسى (الاستعمار) أمام السلام والعدالة.
يمكن توضيح سيرورة تبنى هذه «الأولوية الخطأ» من خلال أربعة «مُنعطفات حرجة» تاريخيا وحتى يومنا هذا. ويأتى ضمن تلك المنعطفات إعلان الاستقلال الفلسطينى لعام 1988، وتوقيع اتفاقيات أوسلو لعام 1993 ــ التى كانت فى جوهرها ترتيبا أمنيا ــ بهدف إقامة الدولة فى نهاية المطاف، ومشروع بناء الدولة تحت رئاسة سلام فياض، الذى أعلن أن الفلسطينيين يقتربون «من موعدهم مع الحرية» حيث إن الدولة موجودة «فى كل شىء ما عدا الاسم»، وأخيرا من خلال محاولة السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس الحصول على اعتراف الأمم المتحدة بصفة الدولة لفلسطين، وهو الأمر الذى ما زال يتجلى للعيان حتى يومنا هذا. وقد أضحت فكرة «كيان الدولة» بمثابة المنظور الضيق والوحيد الذى تدرسُ القيادة السياسية من خلاله مشروع التحرر الوطنى، والذى تُقيِمُ استراتيجياتها بموجبه. كذلك صارت فكرة [كيان الدولة] بمثابة المنظور التحليلى والتشغيلى الذى تستخدمه الجهات الدولية الفاعلة فى تحديد تدخلاتها السياساتية، وحزم المساعدات والمعونة التى تقدمها وكذلك معيارها السياسى. ومع ذلك فإن هذه المواءمة بشأن الهدف والنهج إنما فاقمت المأزق.
***
وعلى وجه الأهمية فإن ما يجمع بين هذه «المنعطفات الحرجة» الأربعة ليس فقط مركزية «صفة وكيان الدولة» فى التفكير السياسى الفلسطينى، ولكن أيضا المحصلة الناتجة وما يترتب عنها، ففى نهاية كل منعطف، كان الفلسطينيون يخرجون أضعف وأكثر تجزُّءا وتشرذما وبُعدا عن الدولة. وليست هذه مجرد صدفة أو نتيجة غير مقصودة، بل إن هذه النتيجة ترتبط ارتباطا مباشرا بفشل الاستراتيجية السياسية المتَبعة، لأن «الهوَسَ بفكرة الدولة» لم يُبقِ على الوضع الراهن واختلال ميزان القوة لصالح المستعمر فحَسب، ولكن تسبَب بإضعاف كِلا الشعب والأمة بوصفِ كلٍ منهما عنصرا أساسيا فى أى دولة، وبدلا من ذلك قام بتمكين «المؤسسات الوطنية الخطأ» فى ظل الشرط الاستعمارى، وقد مكن ذلك الهوَسُ الهياكل والمؤسسات الأمنية من ترسيخ مصفوفات السيطرة القائمة، بدلا من توسيع هامش الحرية الضيق بالفعل أو توسيع القدرة والإمكانيات لتحقيق الحرية.
وبتعبير أدق، خلق هاجس الدولة أوجهَ قصور بنيوية فى الحكم الفلسطينى والأنظمة والحوكمة السياسية التى غيرت بشكل أساسى دور المحكوم، أى الشعب. وفى كل جولة لمشروع بناء كيان الدولة، كان الشعب الفلسطينى يغدو أكثر عزلة عن جوهر النظام السياسى وهياكل الحكم والحوكمة. ولم يؤدِ ذلك إلى تآكل شرعية هذه الهيئات الحاكمة واستراتيجياتها فقط، ولكن الأهم من ذلك أنه جرَد الشعب الفلسطينى من قدرته على إحداث التغيير وأضعف مقدِرته على مقاومة الهياكل الاستعمارية والقمعية بصورة فاعلة.
إن استبعاد هذا المكون الأساسى (الشعب) فى «مزيج الدولة» لا يعكس فشلا محليا فحَسب، بل هو بالفعل مشروع يتجه من الأعلى إلى الأسفل برعاية خارجية ويهدف إلى الاستثمار فى بناء «مؤسسات الدولة الحديثة» بصرف النظر عن مدى شمولها وتجاوُبِها أو مساءلتها أمام الشعب، ناهيك عن أدائها الوظيفى وفاعليتها. يقول لى أحد سكان مخيم جنين بالضفة الغربية المحتلة إنَ «عبارة دولة المؤسسات تحيرنى، فأين هى الدولة أولا، وثانيا، كيف لهذه الدولة أن تتسع لجميع هذه المؤسسات بدون أن يكون للشعب مكان فيها! أىُّ معنى للدولة بدون الشعب؟». ويقول لى لاجئ آخر من مخيم بلاطة للاجئين فى الضفة الغربية المحتلة: «كنت أشاهد محاولة الحصول على صفة الدولة فى الأمم المتحدة على شاشة التلفزيون مثل أى شخص آخر يتابع كلمات المتحدثين من أى مكان فى العالم. نعم، لقد أدمعت عيناى حينما صفق الناس، لكن العواطف لا تصنع الدولة، كما أن الإعلانات والخطابات لا تغير الحقائق، لقد بحثتُ عن الدولة فى اليوم التالى ولكننى لم أجدها، والآن، بعد سنوات، ما يمكننى أن أراه هو سراب الدولة فقط».
***
وعليه فإن الواقع الملموس والتحقيق الفعلى للدولة أمرٌ حيوى من أجل اعتبارها آلية لإعمال الحقوق، ولكن عندما تكون الدولة محض سراب وهلوسة (حتى وإن جرى تصويرها من قبل النخبة السياسية على أنها منتهى الطموح الوطني)، فإن الضرورة تقتضى من جميع الفاعلين المعنيين إعادة تقييم مدى أهمية هذا الركن الأساسى (كيان الدولة) لعملية بناء السلام، وإعادة تصور نماذجَ مختلفة، كما يتعين عليهم أيضا الانخراط فى العمليات التى تُفضى أولا وقبل كل شىء إلى نشوء بيئة مواتية لفكرة الدولة لكى تزدهر وتكون ذات معنى وذات مغزى.
إلاَ أن الجهات الفاعلة الحاكمة المحلية والدولية، وبدلا من أن تنخرط فى عملية إعادة تصور، فإنها لم تكتفِ باستبعاد الشعب كمكون رئيسى فى مشروع الدولة، بل استثمرت فى «المؤسسات الوطنية الخطأ» ومكَنَتها أيضا فى ظل الشرط الاستعمارى. وبعبارة أخرى فإن مشروع بناء الدولة للسلطة الفلسطينية الذى يحظى برعاية دولية ارتكز فى طرحه على قدرة هذه الدولة على الحكم من خلال بناء مؤسسة أمنية قوية، وبالتالى أصبح إجراء عملية إصلاح/إعادة خلق القطاع الأمنى هو السمة المميزة للدولة المقبلة.
أما من الناحية التشغيلية فقد استَتبَع ذلك توظيف قطاع الأمن الفلسطينى لنحو 44 فى المائة من جميع موظفى الخدمة المدنية/القطاع العام، واستئثاره بقرابة مليار دولار من ميزانية السلطة الفلسطينية، وامتصاصه لنحو 30 فى المائة من إجمالى المساعدات الدولية المصروفة للفلسطينيين، إذ تصل نسبة أفراد الأمن إلى السكان إلى نحو 1:48، وهى من بين أعلى المعدلات فى العالم.
كذلك امتدت هيمنة المؤسسة الأمنية إلى المجال السياسى بسيطرة قادة الأمن الرئيسيين على مستوى المناصب السياسية العُليا وعلى صعيد المحافظات الوطنية. وبذريعة مشروع الدولة، نشأ ذلك التلازُم والتماهى التام بين القيادة السياسية والأمنية حيث يبرر القادة السياسيون تصرفات الأجهزة الأمنية، بينما تحمى الأجهزة الأمنية القيادة السياسية، وبدورها فرضت هذه الهيمنة مستوى آخر من السلطة البوليسية على الشعب الفلسطينى.
نظرت القيادة السياسية والأمنية إلى هذه السلطة البوليسية باعتبارها تجسيدا للعقيدة الأمنية التى تسعى إلى ضمان احتكار «الدولة» لاستخدام العنف فى المجتمع الفلسطينى. ومن خلال التصرف وكأنها هيئات ذات سيادة، وتقديم أدائها على أنه أداء «احترافى»، وطَدت الأطراف الفاعلة الحاكمة وداعموها الماليون السلطَوية الفلسطينية وأضفت عليها طابعا احترافيا بصورة فاعلة، وذلك كله فى ظل الحكم الاستعمارى الإسرائيلى.
***
إن نشوء هياكل الحكم الاستبدادى السلطوى، وغياب العمليات السياسية التشاركية الديمقراطية، والاحتفاء بزخارف وبهارج كيان الدولة، لم تجعل فكرة الدولة ــ كأداة لإعمال الحقوق ــ غير قابلة للحياة، وغير قابلة للتحقُق فقط، بل ساهمت أيضا فى إنكار الحقوق الفلسطينية، بما فى ذلك الحق فى إقامة دولة ذات سيادة.
منذ نحو عِقد من الزمن، فى إبريل 2010، أعلن رئيس وزراء السلطة الفلسطينية فى ذلك الوقت سلام فياض أن الفلسطينيين يريدون دولة مستقلة ذات سيادة، و«لا يبحثون عن دولة من البقايا ــ دولة ميكى ماوس». ومع ذلك فإن «دولةَ البقايا» هى تصوير دقيق لواقع «مشروع الدولة» فى حالته الراهنة، وهذا أحد الأسباب التى تدفع بالشعب الفلسطينى إلى التشكيك فى قدرة هذا المشروع على تحقيق نتائج مُجدية من قبيل (السيادة والحرية)، وذلك على الرغم من أوهام قيادته السياسية ومؤيديها الدوليين والإقليميين.
لذا لا بدَ أن يتصور الفلسطينيون مستقبلا مختلفا يتجاوز فكرة الدولة ــ فى ضوءِ ما خبِروه منها على مدى العقود القليلة الماضية ــ وذلك من أجل البدء فى عملية تغيير الواقع الحالى.

 

التعليقات