عدت بالذاكرة ــ وأنا أستعد لكتابة هذا المقال قبل يومين من إجراءات الانتخابات الأمريكية ــ إلى بعد ظهر يوم 6 نوفمبر 1976، عندما طلب منى سفيرنا المتميز فى واشنطن المرحوم د. أشرف غربال، أن أعد بيانين كى يدلى بأحدهما إلى وسائل الإعلام المصرية تعقيبا، إما على فوز جيرالد فورد، أو جيمى كارتر فى الانتخابات. فاز كارتر وخرج البيان الخاص به إلى النور، بينما أصبح بيان فورد فى طى النسيان.

هذه المرة، والانتخاب يوم 6 نوفمبر ستحسم لنا نتائج السباق بين باراك أوباما وبين ميت رومنى، رأيت أن أجازف بالتنبؤ بفوز أوباما (وبالتالى لن أضطر لكتابة مقالين اثنين كى اختار من بينهما). وبنيت هذه النبوءة على أسباب موضوعية بحتة، بعضها داخلى أمريكى، والبعض الأخر خارجى. تَمُسنا فى معظمها بدرجات متفاوتة.

●●●

داخليا، لابد وأن الناخب الأمريكى سيذكر للرئيس أوباما نجاحه فى مواجهة الأزمة المالية الطاحنة التى كانت قد بدأت فى عهد سلفه بوش، وكادت أن تؤدى بالبلاد إلى كساد اقتصادى كبير، وتشير الإحصاءات الأخيرة إلى أن الناتج المحلى الإجمالى للولايات المتحدة قد حقق نموا فى الربع الثالث من العام الحالى بنسبة 2% عن الربع الذى سبقه، أيضا انخفضت نسبة البطالة إلى 7.9% فى شهر اكتوبر الماضى مقارنة بـ10% فى اكتوبر من العام الاول لولاية أوباما. وربما أهم إنجازات أوباما الداخلية قد تمثلت فى نجاحه فى إقرار قانون جديد للرعاية الصحية أدخل به ملايين الأمريكيين تحت مظلته.

خارجيا، يُحسب لأوباما إتمام انسحاب القوات الأمريكية من العراق، الذى كان بوش قد قام بغزوه عام 2003 بعد حملة تضليل عالمية واسعة. صحيح أن العراق تعانى الآن من أزمات ضخمة، سواء ما تعلق بها بالخلل الأمنى، أو النزاعات الطائفية، أو انهيار الخدمات وتهالك البنية الأساسية، أو النزاع المستحكم بين الحكومة فى بغداد وإقليم كردستان حول استغلال البترول وجنى ثماره. كل ذلك صحيح، إنما تبقى الحقيقة أن كل ما تقدم من لم يكن من صنيعة أوباما بل فعله المحافظون الجدد وكبيرهم فى البيت الأبيض جورج بوش، وذلك قبل تولى أوباما الحكم بسنوات.

ومن إيجابيات إدارة أوباما تعهدها بالانسحاب من أفغانستان عام 2014، صحيح أيضا أن الولايات المتحدة ستترك أفغانستان والأوضاع فيها أبعد ما تكون عن الاستقرار، بل تشير إلى إمكانية عودة طالبان بكل مساوئها بعد الانسحاب، إنما يتعين للناخب البحث عن المسئول فى كل هذا، وكيف دخلت الولايات المتحدة فى مغامرة غير محسوبة عام 2001، ولم تأخذ العبرة من الاتحاد السوفييتى ــ الذى تربطه بأفغانستان حدود مشتركة مباشرة ــ والذى اضطر إلى جر أذيال الخيبة والانسحاب عام 1986.

وبالرغم من كل المآسى التى تعرضت لها ليبيا حتى سقط نظام القذافى، أو بعد ذلك وحتى الآن، فإن الأمريكيين سيقدرون لأوباما نجاحه فى النأى ببلاده عن إرسال قواتها البرية إلى الأراضى الليبية، أو ما أُعتبر قيادة من على بُعد، حيث تركت الولايات المتحدة الأمر لحلف الناتو كى يحسم المعركة.

ولاشك أن رفض أوباما الاستجابة للضغوط الإسرائيلية للدخول فى مواجه عسكرية فى إيران على خلفية برنامجها النووى العسكرى المزعوم، يُعد أيضا من نجاحات أوباما، التى جنبت أمريكا أخطارا لا يعلم إلا الله أبعادها ونتائجها.

هناك إنجاز آخر حققه أوباما وهو توصله إلى اتفاق جديد مع روسيا لإجراء تخفيضات ضخمة فى ترساناتهما النووية، وهى كخطوة مهمة من أجل التوصل إلى عالم خال من السلاح النووى فى يوم من الأيام.

●●●

غير أن الفشل الكبير الذى مُنى به أوباما ــ على الأقل من وجهة النظر العربية ــ قد تمثل فى إدارته لملف أزمة الشرق الأوسط، بالرغم من البداية الواعدة عند توليه الحكم. تلاعب نتنياهو بكل أسف بالرئيس الأمريكى، ثم تحداه علنا، وانتهى الأمر به إلى الاستقواء بالكونجرس فى مواجهة الرئيس الأمريكى!. توقفت تماما عجلة السلام، واستمر التوسع الاستيطانى، وأظهر أوباما ضعفا وتخاذلا تجاه إسرائيل، بل واستمر فى إغداق المساعدات العسكرية المتطورة عليها. ومع ذلك أشارت نتائج الاستطلاعات التى أجريت فى إسرائيل مؤخرا إلى أن نسبة 57% من اليهود فيها يتمنون فوز المرشح الجمهورى رومنى، أما أوباما فلم يحظ بتعاطف أكثر من 22% منهم.

●●●

أما وقد فاز أوباما بولاية ثانية، فهل لنا أن نتوقع ميلادا جديدا له بعد أن تحرر للأبد من الضغوط الانتخابية. هل سَيصْدُق أوباما فيما أسر به لرئيس وزراء روسيا فى مارس الماضى (غير أن مكبرات الصوت أمامهما قد فضحت السر) من أنه بعد إعادة انتخابه سيتمتع بقدر أكبر من المرونة فى الحركة؟

مهما كان الوضع، وحتى لو كان أوباما ينوى اتباع نهج جديد بعد أن خسر الكثير عربيا وإسلاميا فى ولايته الأولى، فإنه يجب علينا ألا نتوقع أن يأتى أوباما لنا بالحلول على طبق من فضة. لن يتقدم أوباما ولا خطوة واحدة إذا لم نقابله بتحرك عربى فاعل، ورؤية واضحة للأهداف المرجوة، والدفع بالسُبل والأدوات التى تُمكنه وتمكننا من بلوغ هذه الأهداف.

على الدول العربية ان تستغل القدرات والإمكانيات التى تتمتع بها للتأثير على صُناع القرار فى الولايات المتحدة، والوقوف فى وجه القوى التى نجحت حتى الآن فى أن تجعل الولايات المتحدة أسيرة للسياسات الإسرائيلية.

لا تستطيع إدارة أوباما إغفال عنصر مهم دخل على معادلات القوى فى الشرق الأوسط، وأعنى به الربيع العربى الذى طال حتى الآن خمس دول عربية. ربما للمرة الأولى منذ عقود أضحى للرأى العام فى هذه الدول الكلمة المسموعة، وأصبحت حكومات هذه الدول أكثر انصياعا لرغبات ومتطلبات شعوبها وأكثر قدرة على مواجهة مختلف الضغوط الخارجية.

●●●

وفى ضوء هذه المعطيات هناك ثلاثة أهداف رئيسية علينا أن نسعى إلى تحقيقها:

أولا ــ ضرورة العمل من أجل انعقاد مؤتمر جديد للسلام فى الشرق الأوسط (على غرار مؤتمر مدريد لعام 1991)، على أن تكون المبادرة العربية لعام 2002 مرجعيته الرئيسية. هناك مخاطر كبيرة تحيط بفرص حل الدولتين، ومخاطر أخرى تتمثل فى الاستيطان الذى استشرى فى الضفة مع التهويد المستمر للقدس. لابد من وضع حد لكل هذا. لن يتأتى ذلك إلا من خلال تحرك عربى منسق، والعمل على أن تحتل فلسطين مكانها الطبيعى فى الأسرة الدولية، وفى نفس الوقت الانتهاء من ملف المصالحة الفلسطينية دون مزيد من الإبطاء.

ثانيا ــ العمل على وضع نهاية سريعة للمأساة السورية بعد أن وضح تماما أن الأزمة لم تعد محصورة ضمن حدود سوريا، وأن آثارها السلبية طالت دول الجوار جميعها. لم يعد خفيا أن أطرافا إقليمية عدة تعمل داخل سوريا لتحقيق أهداف مختلفة، والنظام السورى ماض فى غيه، يلحق الدمار والخراب بمدن هذا البلد العريق وقراه. وتحد آخر لابد أن تركز عليه الدول العربية جهودها عليها فى الفترة المقبلة. وهو العمل على إحداث تغيير فى مواقف الدول الكبرى التى وقفت حتى الآن فى طريق التوصل إلى إجماع دولى على التصدى للأزمة. لحسن الحظ أن للعديد من هذه الدول الكبرى مصالح ضخمة فى العالم العربى، بمعنى أن استجابتها للضغوط العربية، إذا أحسن استخدامها، لن يكون أمرا بعيد المنال.

ثالثا ــ وعلى الصعيد الثنائى بين مصر والولايات المتحدة، لابد من إرساء قواعد جديدة للعلاقات بينهما. وكما سيبدأ أوباما فترة رئاسية جديدة فى 20 يناير 2013، ستبدأ مصر مع أوائل العام المقبل مرحلة جديدة فى مسيرتها بعد الثورة، قوامها دستور توافقى، وانتخابات نزيهة، وديمقراطية سليمة، وحكم رشيد. ويعنى هذا تلقائيا القدرة على اتباع سياسة خارجية مستقلة، وعلى الحفاظ على المصالح المصرية والدفاع عنها.