هل مات النظام الإقليمى العربى؟ العروبة ومشروع المستقبل - يوسف محمد الصواني - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 4:26 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل مات النظام الإقليمى العربى؟ العروبة ومشروع المستقبل

نشر فى : الإثنين 11 يناير 2021 - 7:35 م | آخر تحديث : الإثنين 11 يناير 2021 - 7:35 م

تفاجأ الكثيرون بما حدث مؤخرا من قيام دول عربية باتخاذ مواقف وخاصة تطبيع علاقاتها مع العدو الإسرائيلى وما يتصل بذلك من إعادة ترتيب أولويات النظام الرسمى العربى. هذه المواقف وآخرها مقدمات ونتائج المصالحة الخليجية مؤشر لما ظل معتملا تحت السطح لعقود من الزمن وينبغى النظر إليه كنتيجة لفشل الفكر والمشروع النهضوى وتراجع النظام الرسمى العربى وقد تُمثل الإعلان عن موته بعد أن تم التأسيس لهذا التراجع عبر عقود ليصبح مجرد تابع وتصبح إسرائيل حليفة فى مواجهة «العدو الإيرانى» المشترك! النظام الإقليمى العربى كما عهدناه لم يعد قائما فقد أصبحت معظم مكوناته الأساسية تدور فى فلك نظام يرتبط باستراتيجيات تقودها الولايات المتحدة الأمريكية وهى مرشحة للتعاظم مع تولى الرئيس الجديد جو بايدن لمهامه واستعادة الإدارة الديمقراطية للنشاط والعمل المؤسس فى هذا الاتجاه.

النظام العربى: درس الماضى وارتدادات الربيع العربى
منذ نشأته فى 1945 تميز النظام الإقليمى العربى بمشترك حضارى وثقافى وتاريخى ضمن تصور لهوية عربية جامعة يسندها تواصل جغرافى مع اعتبار فلسطين قضية مركزية أعطت متانة للخصائص القومية لهذا النظام. ورغم هزات القرن العشرين التى أفقدته قسما من مقوماته فقد تمكن هذا النظام من البقاء ولو بالمحافظة على الحد الأدنى. لكن هذا النظام بدأ فى العقد الأخير يواجه تحديات مصيرية فقد جاءت ثورات وانتفاضات 2010ــ2011 وما ترتب عنها فطالت أنماط تفاعلات وتحالفاته وعلاقاته لتدخله فى أزمة بنيوية وحالة من الفراغ الاستراتيجى أو الانكشاف أمام الخارج وتهديد بنيته ومكوناته المختلفة وجعلت التحدى مصيريا ووجوديا.
لا بد من العودة إلى ما شهدته المنطقة من تطورات مفصلية طالت مجمل المفاهيم والتصورات المتصلة بفكرة الهوية والعروبة والدولة ضمن سياقات العلاقات الدولية ببعديها التعاونى أو الصراعى. احتاج الأمر إلى ما هو أبعد تأثيرا وعمقا من هزيمة 1967 فتكفلت بالمهمة الثورات أو الانتفاضات لتعيد للواجهة ما كنا نقدر أنّا قد تجاوزناه كاشفا عن قدرة هائلة على إحياء الصراع حول مسائل العروبة والقطرية والطائفية والإسلام والدولة والعدو وغيرها. منذ نشأتها سعت كل دولة عربية لتقوية موقفها وتعزيز ممانعتها فى مواجهة الداخل والخارج الإقليمى (أو العربى!). وظفت مثلا السياسات الوحدوية وصارت العروبة فى أحيان كثيرة غطاء وأداة للتسلطية والتدخل فى الشئون الداخلية. كما استخدمت ولذات الغرض سياسات كالدعوة للوحدة الاسلامية، أو الدعوة للحرب واستخدامها لدعم استقرار الحاكم واستخدام الدين مصدرا لشرعية مبتغاة. لم يؤدِ كل ذلك سوى لتجهيز الأرضية للمنادين بشرعية بديلة تتوخى دولة تستند على تصور اثنى أو ثقافى ــ اثنى أو تحلم وتعمل لأجل خلافة مأمولة مما أدخل المنطقة لاحقا فى أتون حروب داخلية وعدوان وعنف متوحش وإرهاب طال عددا من الدول العربية فتهاوت مؤسساتها. كما تعرض المجتمع أيضا للتهديد لانسداد أفق صياغة عقد اجتماعى جديد يحرر الطاقات والإبداع لنغوص مجددا فى وحل سياسات الهوية والطائفية والقبلية والأممية والانكفاء نحو ما قبل الدولة بدل التمييز بين الواقع والحلم الأيديولوجى فى مواجهة تحديات الواقع الاجتماعى فكانت النتيجة أن فقدت كل الأولويات قيمتها الاستراتيجية.
لذلك يجب أن يزول الاستغراب (وليس الاستنكار) لما تقوم (ستقوم) به دول عربية فذلك هو منطق الدولة وديدنها منذ نشأتها وترتيب أولوياتها فى المحيط الإقليمى. ما نشهده من تطبيع مع إسرائيل أو تدخل عربى أشعل حروبا واقتتالا كما فى سوريا وليبيا واليمن، أو دعم القبول بالتدخل الأجنبى فى ساحات عربية مختلفة واحتلال أراضيها، ليس سوى تعبير عن الافتقار للبوصلة الواحدة وتأكيد على أن ما كان قائما من تصورات لم تعدُ كونها أوهاما أو أمانى طيبة فى أفضل الأحوال. وبقدر ما تؤكد التجربة ما يتجاوز القول بجدلية الوحدة والتفكك أو التعاون والصراع، فهى تطرح الأسئلة عن وسائل الخلاص: هل هى ذاتية؟ أم خارجية؟ وهل يمكن صناعة النهضة بالذات فقط؟ ما هى حدود الممكن فى علاقته بالمأمول؟ وهل يبقى المأمول سدا أمام الممكن؟ أم أننا بحاجة لإدراك حقيقة البنى الكونية الطابع أيضا؟ كما تؤكد التجربة أن تحرير الفرد والمجتمع من آثار السلطة من صميم النهضة وهو ما يقتضى تفهم طبيعة هذا الكيان المسمى دولة وآليات اشتغاله بما يساعد على ضبط حدود الدولة والسلطة بدل أنظمة الرعاية والتبعية والقمع التى تجعل الفرد والمجتمع بكامله رهينة لدى الدولة وتابعا لها حيث الحاكم سيدُ أولى بالطاعة.

العروبة وسياسات الهوية والقطرية ومشروع المستقبل
بصرف النظر عن محاولات إعادة كتابة تاريخ المنطقة لإدانة فكرة العروبة والتحرر من الأتراك وأنها كانت مؤامرة، فقد كانت العروبة فى مرحلتها المبكرة تعبيرا عن الرغبة فى هوية ووجود عربى مستقل، ثم جاء النضال ضد الاستعمار الأوروبى هدفا للمرحلة الثانية. وعكست المرحلة الثالثة الانشغال بالتغيير والتنمية فتم تأجيل الديمقراطية وتمكين الشعب سياسيا. ثبت خطأ مثل هذا التفكير بعد أن تلقينا الدرس المؤلم فى المخاطرة بخسارة أى إنجازات اجتماعية لا تحميها الديمقراطية. احتجنا لهزيمة 1967 لندرك الحاجة إلى إعادة النظر، ثم تبرز الحاجة لدرس أكثر مرارة فاندلع الربيع العربى ليعيد إلى الأذهان أنه لا حياة واستقرار بدون حرية وكرامة ومشروع للمستقبل وليس مجرد حلم باستعادة الماضى.
هكذا يثير المشهد التساؤل أمام ما بدا واضحا من تخلى النظام العربى الرسمى عن آخر معاقله وتنازله عن قضيته المركزية (فلسطين) ومواجهة إسرائيل ليدخل فى مسلسل من التطبيع المشين ويغادر آخر محطات النظام الإقليمى الرسمى عبر ما يجرى التسويق له من صياغة جديدة للأمن «القومى العربى» بإعادة تعريف العدو (صار هو إيران هذه المرة) وليصبح الدفاع العربى المشترك أمرا غير لازم بحد ذاته إلا ضمن إدراجه فى منظومة دفاع تكون جزءا من ترتيبات قوى خارجية توظفها لخدمة أهداف استراتيجيتها الكونية. وبينما يفقد النظام أهم خصائصه ويتراجع المشترك ويفشل فى إحداث التأثير الإيجابى أمام قوى تدفع للتذرع والبناء المخالف يمكننا القول إن ما نشهده هو فى الحقيقة موت لهذا النظام ويفرض أسئلة وتحديات لابد من وضعها فى الاعتبار فى أفق مفتوح على شتى الاحتمالات.
لا بد من مراجعة شاملة فلم يعد يجدى النظر إلى العروبة والهوية كاستنساخ للماضى بل لا بد من تقديم صيغة جديدة تفتح المجال أمام توظيف المشتركات لتسهم فى مشروع مستقبلى تمليه تحديات العصر والاحتياجات الفعلية، وليس مجرد الركون إلى الهوية والتاريخ أو العاطفة القومية الجياشة. مشروع المستقبل لا ينبغى تأطيره فى نموذج أو تصور واحد بقدر ما هو شكل للتنسيق أو التكامل يتكيف مع الظروف ويستجيب للتحديات والاحتياجات التى تحكمها الدولة ومنطقها وطبيعة النظام الدولى الذى تعيش فيه. كل ذلك يفرض تبنى الخيار الديمقراطى لتحقيق النهضة التى لا يمكن تحقيقها إلا بمواطنة فاعلة ومشاركة تحمى كيان الدولة ووجودها من التلاشى وتحافظ على الحد الأدنى فى أوقات التراجع.
وبينما تكسر حلم بناء نظام ديمقراطى جديد ستبقى الديمقراطية والمواطنة والتنوع ضرورة لأى تصور للمستقبل بقدر ما تكون الأهداف استجابة لحاجات راهنة وجزءا من آمال المستقبل وليست طوطما أو مقدسا ميتافيزيقيا دوجمائيا لا يخضع للتغيير والتطوير فتتنوع وتتعدد صيغه وفقا للظروف والأحوال. لا يمكن مواجهة هذا التحدى والواقع المرير وآفاقه المستقبلية إلا بإعادة طرح الإشكاليات والأسئلة من أجل نهضة تستوعب التجربة المرة وتتعلم الدرس القاسى وتتفهم حياة المجتمعات دون إصرار على تميُز أو تصور قد لا يكون ممكنا عمليا. إن مواصلة الانشغال بذات الأفكار والتصورات والانقسامات التى لا تناسب تحديات الحاضر ليس سوى عجز عن استخلاص الدروس والتمسك بسردية أصولية أو أخرى وهدر الطاقات التى ينبغى أن توجه للتفكير فى مسألة النهضة والإجابة على أسئلتها المباشرة.
ومع أن التحولات ليست نهائية أو حاسمة فتفاعلاتها وارتداداتها لا تزال تعتمل بكل قوة على نحو يصعب معه الجزم بمصير النظام الإقليمى العربى ومقوماته وقضاياه الأساسية، فإن المنطقة أمام تحدٍ حقيقى للتفكير فى المستقبل ذلك أن البديل هو ذوبان ما تم التعويل عليه فى الماضى وعدم القدرة على تشكيل أو وضع تصور مشترك لما يمكن أن يحدد المستقبل. وحتى يتحقق ذلك أو ينطلق العمل لأجله، يموت النظام الرسمى العربى أو يبقى قائما اسميا أو شكليا ولكن ليس لأجل بعيد.

يوسف محمد الصواني أستاذ السياسة والعلاقات الدولية، جامعة طرابلس - ليبيا
التعليقات