المرض النفسى ليس وصمة عار - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 12:11 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المرض النفسى ليس وصمة عار

نشر فى : الثلاثاء 13 أبريل 2010 - 9:54 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 13 أبريل 2010 - 9:54 ص

 انتهى مجلس الدولة من مراجعة اللائحة التنفيذية الخاصة بقانون رعاية المريض النفسى الجديد الصادر فى العام الماضى، ما يعنى أنه سوف يدخل إلى حيز التطبيق خلال الأيام القادمة. يحمل هذا القانون عددا من الأهداف أبرزها تدعيم حقوق المريض النفسى والعمل على حمايته، بصورة أكثر فاعلية من القانون 41 لسنة 1944 الذى جاوز عمره بعملية حسابية بسيطة نصف القرن.

صدور القانون الجديد ولائحته خطوة على طريق إرساء نظرة مختلفة، أكثر قبولا للمريض النفسى، وأكثر عدالة وقدرة على استيعابه ودمجه فى محيطه. مع ذلك فإن هذا القانون لا يمثل حلا سحريا للقضاء على سوء أوضاع غالبية المرضى، ولا يشكل طوق النجاة من المصاعب والمضايقات التى يتعرضون لها.

إن المشكلات التى يصادفها أى مريض نفسى لا يمكن تلخيصها فقط فى تقادم قانون وانتهاء صلاحيته، ولا حتى فى داء عدم تفعيل المواد القانونية وتطبيقها، إنما تكمن المشكلات الحقيقية فى وعى الأفراد وثقافة المجتمع المستعصية على التغيير.

دارت بعض الأفكار بذهنى حينما كنت أستمع لرئيس أحد أقسام العلوم الإنسانية وهو يحاضر أمام مستمعيه مشيرا إلى نزلاء واحدة من المصحات النفسية الشهيرة، ناعتا إياهم فى معرض الحديث، بالغباء والتخلف. عذرا لإعادتى اللفظين، لكن هكذا جاءت الكلمات، وبتلقائية وعفوية شديدتين ودون أن يستوقف الوصف أيا من الحاضرين، بل أومأ بعضهم برأسه علامة التأييد والموافقة.

بعيدا عن الحقائق العلمية التى تدين هذا الوصف، والتى ترى أن أكثرية المرضى النفسيين كما الأصحاء يتصفون بذكاء عادى بل وربما يتفوقون فى بعض الأحيان، وبعيدا عن التفسيرات العلمية والأبحاث والنتائج والمعامل والاختبارات والقياسات، بعيدا عن كل هذا فإن تلك الرؤية الضيقة للمرضى يسهل ضحدها على أرض الواقع. الكثير منا يعرفون مريضا نفسيا بين الأقارب والأصدقاء، وبعضنا دخل تلك التجربة بنفسه، سواء خرج منها أو لايزال فى طور الاستشفاء، وربما تمكن من التعايش مع بعض الأعراض المرضية، دون تأثير يُذكر على مستوى الذكاء والاستيعاب، بل إن بعض المرضى فى المصحات النفسية يستكملون دراستهم من داخلها دون أن يعيقهم المرض النفسى، وهناك من يحصدون الجوائز العلمية الكبرى كما عالِم الرياضيات الأمريكى الشهير جون ناش الذى أصيب لفترة طويلة من حياته بالفصام.

صورة المريض النفسى فى مجتمعنا هى ولاشك صورة يشوبها القصور وعقم الإدراك، هى صورة مصابة بالمرض فى حد ذاتها، لكنها للأسف الشديد تشكل جزءا من الخلفية الثقافية العامة التى يشترك فيها الجميع، الفرد الأمى البسيط وأستاذ الجامعة المثقف على حد سواء.

وقد أسهمت الأعمال الدرامية فى خلق نمط كريه قدمت به المرضى، بدءا من الملابس المهلهلة المتنافرة أو القميص الشهير الخالى من الأكمام، وإناء الطبيخ المقلوب على الرأس، وصولا إلى الحركات الغريبة التى لا يمكن توقعها والنظرات الزائغة الموزعة فى غير مكان، ولا ضير كذلك من بعض اللعاب السائل على جانبى الفم، فالمريض النفسى لدى عدد من الإعلاميين وصناع الدراما مادة ثرية، إما شخص يثير الضحك لغرابة أطواره أو الشفقة لقبح ورثاثة مظهره، أو أنه يبعث على الخوف لعدوانيته وشراسته.

هكذا ترسخت الصورة المصنوعة فى وجدان الناس بحيث بات المرض النفسى بمثابة وصمة عار يفضل الكثيرون إخفاءها والتستر عليها، وأصبح الفرد الذى يعانى علة نفسية منبوذا، حتى وسط مجتمعه الضيق من الأهل والأصدقاء، هو الأقل شأنا واحتراما، يتهرب منه الجميع ويفضلون إنكار وجوده.

لاستكمال الصورة المحملة بكل دوافع الاستبعاد والإقصاء فإن أطباء الأمراض النفسية ينظر لهم من زاوية الرفض ذاتها تقريبا، باعتبارهم قد تشربوا بعض الأعراض المرضية. أذكر أننى قد طالعت بالصدفة إحدى المجلات المصورة الخاصة بالأطفال ووقعت عينى على وجه كاريكاتيرى لإسماعيل ياسين فى إعادة غير موفقة للفيلم الخالد «إسماعيل ياسين فى مستشفى المجانين» حيث ظهر الطبيب فى المجلة واضعا «طاسة» فوق رأسه، وكأن الحال قد بقى على ما هو عليه منذ عقود خلت، وكأن شيئا لم يتطور فى وعى الناس وإدراكهم لطبيعة المرض.

أما عن العلاجات النفسية فأكاد أجزم أنه لم يوجد علاج لمرض على وجه الأرض تعرض للتشويه وسوء الاستغلال مثلما تم مع جلسات تنظيم الإيقاع الكهربى للمخ، والتى درجت الثقافة الشعبية على تسميتها «صدمات الكهرباء»، حيث ظهرت على شاشة السينما والتلفزيون باعتبارها وسيلة يُعذَّب بها المريض، وحقيقة هذه الجلسات أنها تعالج عددا من الأمراض النفسية، وهى من أكثر الوسائل العلاجية أمنا حتى أنها قد تُعطى فى فترات الحمل لتلافى الآثار الجانبية للدواء، كما يسبقها تخدير كامل للمريض ثم إعطاؤه باسطا للعضلات بحيث لا يشعر بأى شىء حتى تنتهى الجلسة. وفى هذا الأمر ليس أسوأ من المشهد الذى قام به الفنان عادل إمام كمريض حيث يُساق مقيدا، ويظهر الطبيب «سعيد عبدالغنى» آمرا بإعطائه جلسة كهربائية كما لو كانت عقابا، ويتم توصيل المريض بالكهرباء لينتفض جسده ويتشنج وينقبض وينبسط ثم يقوم مترنحا ومتهالكا، وهو مشهد يتعرض بكثير من التشويه لأحد أنجح الوسائل العلاجية التى عرفها الطب النفسى على مر العصور. ربما لم يخطر ببال صانعه التأثير السلبى الذى أحدثه على المتفرجين، أو على المرضى الذين يعالجون بذات الوسيلة، لكن النتيجة النهائية هى المزيد من الإساءة والمزيد من الحواجز والسدود والإهانات فى وجه المريض النفسى.

ولأن الوعى العام الذى تم تشكيله لا يخص نفر من الناس دون آخر فإن الدعاة الدينيين لم يتمكنوا بدورهم من الإفلات من أسر النظرة غير الموضوعية للمرض النفسى وأطبائه، فظهرت منذ فترة وجيزة واحدة من الداعيات الشهيرات فى برنامج حوارى على الشاشة، وحذرت متابعيها خاصة النساء من زيارة الأطباء النفسيين دون محارم، مشيرة لأن هؤلاء الأطباء معتادون على التحرش بمريضاتهم!

ولا يمكن إغفال دور الصحافة خاصة صفحات الحوادث فى إضافة المزيد من الهالات المفزعة حول المرضى، فالجرائم العنيفة وأحيانا السياسية سرعان ما يتم وصف مرتكبها بأنه «مختل عقليا»، برغم أن هذا «المختل» غالبا ما تثبت سلامته النفسية والعقلية بناء على تقييم الأطباء، وأشهر الأمثلة جريمة بنى مزار الأولى التى تم تبرئة المتهم فيها وإثبات صحة عقله، وأغلب الظن أن لوزارة الداخلية يد فى إطلاق هذا الوصف على المتهمين لتسهل من تقبل الناس للجريمة ولتتجنب البحث عن دوافعها.

إن الروافد التى تدعم بقاء المريض النفسى فى صندوق مغلق هى بالفعل كثيرة ومتشعبة، ولا يمكن القضاء عليها بالاعتماد على بعض القوانين واللوائح والتعليمات، فالقوانين وإن كانت فعالة فى حماية المريض من بعض الانتهاكات إلا أنها لا تكفل له نظرة احترام أو ترحيبا، وأظن أن تطبيق القانون الجديد لابد أن يصحبه جهد كبير لإيجاد وعى أكثر نضجا واستيعابا وتفهما لماهية المرض النفسى وطبيعته.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات