هكذا تحدث حكيم سيناء - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الأحد 5 مايو 2024 2:32 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هكذا تحدث حكيم سيناء

نشر فى : الأحد 14 فبراير 2010 - 10:19 ص | آخر تحديث : الأحد 14 فبراير 2010 - 10:19 ص

«أسد يسود بقر أفضل من بقرة تسود أسود» هكذا يقول المثل البدوى السيناوى، لكن فى الحالة الآنية الخراف تسوق خرافا والكبير أصبح لا مكان له فى عصر الصغار. فعندما يتم تعيين شيخ القبيلة من وزارة الداخلية فلا يمكننا بالتأكيد أن ننتظر أسدا. ماذا حدث لتضع الداخلية المصرية أنفها فى حياتنا اليومية هكذا؟ كيف تحول شيوخنا إلى مرشدين؟

فى الزمن الجميل كان الشيخ كبيرا بالفعل، كلمته مسموعة، كان الأكثر ثراء وقوة. أسد يسود وحده، أما وجود الدولة فكان من خلال نقطة الشرطة. أتذكر أنه فى أوائل الستينيات كانت قوة نقطة الشرطة تتكون من اثنين لم يتغيرا لسنوات طويلة هما: «محمد الضوى» و«محمود خليفة». كانا من السودان. عدتهما كانت من جملين وثلاث بنادق عتيقة. كانا يذهبان كل فترة إلى الطور لإحضار التعيين الخاص بهما. وكل أربعة أشهر يحضر رئيس لهما من المركز، سودانى هو الآخر، يظل معهما لأيام محدودة ثم يرحل. اليوم الحضور الأمنى كثيف للغاية. يحرسون طرق الأسفلت ونحن لا نسير إلا فى الصحراء وفى دروب الجبال. لكاترين أكثر من عشرين مدخلا من الجبال التى تحيطها من كل جانب، أما الأمن فيقف كالوحش على طريق واحد فقط، وهو الطريق الذى بنته حكومتهم يراقبون أبناء المدن المصرية. كل المداخل الأخرى خالية من أى أمن. لكن الفارق بين الأمس واليوم أن الحكومة المصرية تطالبنا بدفع مبالغ خيالية على الأرض التى نعيش عليها. وكأنهم لا يعلمون أن أرض الله واسعة. أحضروا لنا عامود نور وطريقا واحدا ممهدا للسيارات وعلى أساسه علينا أن ندفع لهم.

ضحك حكيم سيناء قبل أن يلقى علىّ نكتته فاهتز ذقنه الطويل المخضب بالبياض وضاقت عيناه العسليتان التى تشبهان عينى النمس: قالوا للحيوانات حذار، ففى الغد سوف يسخطون، فضحك القرد ملء شدقيه قائلا: «حمدا لله فأنا مسخوط خلقة». فنحن البدو كما القردة نضحك على كلام الحكومة، فنحن ولو لم يفهموا «بدو خلقة». عمود النور لا نريده.. أبنيتهم لا نريدها.. لو احتجنا للكهرباء فالطاقة الشمسية موجودة.. طرقهم لا نحتاج إليها.. أتساءل لماذا أشترى أرضا؟ هل أنا مخلد فى الدنيا لكى أمتلكها؟

يعلم جميع البدو أن التقشف نعمة والترف انفلات. والسيناوى يعيش فى الصحراء، تعوَّد أن يكون شريدا ومطاردا، يعرف أن النعمة لا تدوم، هذا هو تاريخنا كله: «النعمة لا تدوم». تتصور الحكومة أن رمال سيناء ذهب ولكن الحقيقة نحن نعرفها فرمال سيناء نحاس، أرض قاحلة دهسناها، تلعب فيها الذئاب والضباع. الجميع يستعد الآن للرحيل من مدينة كاترين، أى هذا الشارع الأسفلتى الذى تعشقه حكومتنا. سوف نترك المدينة لهم.. يريدونها.. فليهنأوا بها إذن.. سوف نرحل إلى الوديان وإلى الجبال.. ما الذى يضطرنا إلى قبول هذه الإهانات؟ عمود النور؟ فليهنأوا به. تحدث معى أخيرا أحد أعضاء المجلس الشعبى، قال لا بد وأن ندفع. يتحدثون عن سعر للمتر وسعر للعداد. قلت له إن العيار الذى لا يصيب يوجع الرأس. لسنا على بحر بل فى وسط صحراء. يريدون هذه القطعة من الرمال؟ الرمال كثيرة ولا نريد أن ندخل فى دوامات.. الرحيل هو الحل..

الكلمة الجازمة نور تضوى فى ليل الملل / مهما تكون مهموم اغزل فى توب الأمل. والأمل الوحيد لنا الآن أمام صلف الحكومة هو أن نخرج. هو أن نسكن فى وديان جبالنا. نزرع هناك وسط الصخور النارية شجر اللوز والمشمش والعنب والتين والخوخ والسفرجل والليمون. ماذا نحتاج أكثر من ذلك؟ الرحيل. الرحيل. فالذى يجالس الحداد لابد وأن يُكوى بناره. والحكومة حداد يسكنه الشيطان. وكما يعرف الجميع: «الشياطين بتتفضح فى النهاية».

حكى لى جدى أنه كان يوما جالسا متعبا على صخرة، فمر أحد ضباط الداخلية المصرية فوقف الجميع إلا جدى، فنهره الضابط قائلا: كيف لا تفزع واقفا؟ هل لا تعرف من أنا؟ فرد جدى قائلا: «بل أعرف من أنت: أولك بصقة قذرة وآخرك جيفة نتنة وبينهما ذاك وذاك». هذا هو الإنسان ومن لا يعرف حقيقته فذاك من يسكنه الشيطان، هو من يشرب العسل ويتصوره ماء، هو من يتصور أنه يمكنه أن يملك الأرض، هو من لا يعرف أن الخلود لله وحده. وكما سبق وقلت: «الشياطين بتتفضح». أما من يعلم حقيقته فهو من يتذوق العسل ويقول ما أحلاه، هذا عسل.

مصر ليست هذه الحكومة، أعرف مصر، هى وردة مليئة بالأشواك تفوح منها الرياحين، وتضوى بأزهى الألوان، مصر وردة جميلة نتقبلها دائما بالحب ولو جرحتنا يوما أشواكها فرائحتها سوف تكون الدواء لنا فى غد قريب.  

خالد الخميسي  كاتب مصري